يبدو أن ملف تأليف الحكومة قد تراجع إلى حدود نقطة الصفر، في ظل انقطاع شرايين التواصل بين القوى السياسية المعنية بهذا الأمر، وفي ظل انكفاء أي حراك إقليمي أو دولي في هذا الاتجاه، ووسط سيطرة أكثر من ملف على المشهد اللبناني، من مسألة الكباش الحاصل حول عمل القضاء، مروراً بتفاقم الوضعين المعيشي والاقتصادي، وصولاً إلى الأزمة المستجدة بين لبنان وأكثر من دولة خليجية على خلفية ضبط كمية من المخدرات في المملكة العربية السعودية قادمة من لبنان.
وبغض النظر عن إمكانية أن ينجح المسؤولون اللبنانيون في معالجة أي من هذه الملفات أم لا، وفرملة العزلة المتواصلة للبنان عن محيطه وعن العالم، فإن ثمة من يعتقد أن المسؤولين المطلعين على مسار تأليف الحكومة باتوا يخشون من فشل التوصّل إلى توليفة حكومية في وقت قريب، لا بل انهم لا يستبعدون أن تستمر الأزمة الحكومية طوال عهد الرئيس ميشال عون، وأن يترافق ذلك مع خضات اجتماعية وربما أمنية في حال ظل سعر صرف الدولار متفلتاً على غاربه من دون أن يكون هناك أي ضبط لأسعار المواد الغذائية وغيرها من المواد التي يحتاجها المواطن اللبناني والتي بات سعرها مرتبطاًً بسعر الصرف اليومي للدولار.
ويستند هؤلاء في توقعهم المتشائم هذا الى معطيات داخلية وخارجية لا تبشر بالخير على حدّ تعبيرهم، فعلى المستوى الداخلي لا يوجد أي تواصل بين المسؤولين لتذليل العقد الموجودة أمام تشكيل الحكومة، والمبادرات السياسية غائبة عن السمع وهي توقفت عند المبادرة الأخيرة التي قدمها رئيس مجلس النواب نبيه برّي والتي تواجه برشتات من التحفظات والفيتوات لدى القوى المعنية، خصوصاً وأن المعلومات الشحيحة التي يتم تداولها في هذه الآونة تفيد بأن الرئيس سعد الحريري بصدد التراجع عن القبول بفكرة تأليف حكومة من 24 وزيراً، وهو يتجه للتمسك بطرحه الأوّل والقائم على تشكيل حكومة من ثمانية عشر وزيراً، بعد ان تبين له بأن حكومة الـ24 وزيراً ستمنح الرئيس عون وفريقه السياسي أكثرية تفوق الثلث المعطل في حال تمسك رئيس الجمهورية بتسمية الوزراء المسيحيين. وهذا يعني ان الأزمة الحكومية عادت لتدور في الحلقة المفرغة من دون بروز أي معطيات تؤشر إلى إمكانية الخروج من هذه الدائرة في وقت قريب، لا بل ان هذا الملف أصبح في آخر جدول أعمال المسؤولين اللبنانيين المنشغلين في خلافاتهم السياسية ونكدهم واللجوء إلى قاعدة النكايات في مقاربة أي من الملفات المطروحة، ناهيك عن الانشغال الدولي عنا، اللهم باستثناء النافذة الصغيرة التي لا تزال تفتحها باريس باتجاه لبنان، حيث يقال أن فرنسا لا تزال تتمسك بمبادرتها وهي تأمل أن تستفيق القوى السياسية في لبنان وتتفاهم على تأليف حكومة قاعدتها روح هذه المبادرة قبل فوات الأوان، وهذا ما سيبلغه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان للمسؤولين اللبنانيين في حال زار لبنان، كما تقول بعض المعلومات الواردة من العاصمة الفرنسية، والتي تضيف بأن استمرار القوى السياسية في لبنان على مواقفها وعدم التجاوب مع حبل النجاة الفرنسي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ذهاب الاتحاد الأوروبي بصورة جدية في اتجاه فرق عقوبات على المعرقلين بعد أن شارف صبرهم على النفاد.
الراعي لم يخرج مرتاحاً من لقائه عون ويضع مسؤولية الأزمة على عاتق كل الأطراف
وفي ظل الانسداد شبه الكامل في أفق التشاور الداخلي اتجهت الأنظار في الساعات الماضية إلى الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني الكاردينال بطرس الراعي إلى قصر بعبدا ولقائه الرئيس ميشال عون بعد عظة الأحد التي ضمنها انتقادات واسعة على ما قامت به القاضية غادة عون في عوكر، معتقدين بأنها تأتي في سياق السعي الذي يقوم به سيّد بكركي لتأليف الحكومة، غير أن مصادر مطلعة على فحوى هذه الزيارة تؤكد بأن لا مبادرة جديدة حملها البطريرك إلى بعبدا، وأن زيارته كانت لتبادل الآراء والأفكار حول كيفية إنقاذ اللبنانيين، وتأليف الحكومة هو جزء من عملية الوضع اللبناني الذي هو الآن بحالة مزرية معيشياً واقتصادياً وأمنياً، إضافة إلى تزايد حالات الهجرة والبطالة وسقوط المؤسسات.
وإذ تؤكد هذه المصادر بأن البطريرك تناول في حديثه الوضع الحكومي إنما من باب الحث على الاسراع في التأليف ولم يحمل أي مبادرة اعتقاداً منه بأن ملف التأليف هو اليوم بحاجة إلى إرادة وليس إلى مبادرة.
وتكشف المصادر بأن البطريرك الراعي لم يخرج مرتاحاً من اللقاء لعملية التأليف، وهو يضع المسؤولية على عاتق الجميع وليس على طرف واحد من الأطراف.
وفي السياق ذاته فإن أوساط سياسية لا ترى في الأفق ما يؤشر إلى تأليف الحكومة في وقت قريب، وهي لا تسقط من حساباتها أن يكون هناك تأثير كبير للملفات الخارجية على الداخل اللبناني تجعل الملف اللبناني يدخل في مدار المقايضات الخارجية ان في ما يتعلق بالمفاوضات التي استؤنفت في فيينا بين واشنطن وطهران في ما خص الملف النووي، كون أن هذا الأمر له تشعباته التي تصل إلى مسألة العلاقة الإيرانية - السعودية والأزمات الممتدة من اليمن مروراً بالعراق وصولاً إلى سوريا، حيث يسعى كل طرف من الاطراف المعنية إلى الإمساك بما يتسنى له من أوراق في المنطقة واستخدامها على طاولة التفاوض لتحسين بعض الشروط وتحقيق المكاسب، وهذ يعني ان لبنان واقع الآن بين مطرقة الأزمات الموجعة التي لا قدرة له على حلها أو تحمل وزرها، وسندان الكباش الخارجي الذي يستخدمه ورقة للمساومة، وما بين المطرقة والسندان فإن لبنان ما عليه الا الانتظار لأنه في موقع الضعيف، لا بل المهترئ. والذي يذهب المسؤولون فيه إلى التصادم والكباش، بدلاً من الجلوس وجهاً لوجه إلى طاولة حوار والتفكير بالآليات الصحيحة التي تخرجهم من هذه الأزمات.