تُرصَد بعض "الحركة" في الأيام الماضية على خطّ عمليّة تأليف الحكومة، لكنّها حركة "بلا بركة" من الأساس هذه المرّة، باعتبار أنّ شيئًا لم يرشَح عنها، يوحي بإمكانيّة إحداثها أيّ "خرق" يُبنى عليه لتقريب وجهات النظر بين الأفرقاء المتخاصمين.
في الخارج، يبدو "الانكفاء" سيّد الموقف، بعدما مُنِيت المبادرات والوساطات بالخيبة والفشل، ولعلّ إعلان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن "قيودٍ" فُرِضت على من صنّفهم بـ"معطّلي" تأليف الحكومة خير دليلٍ على مثل هذا الجوّ السلبيّ.
أما في موسكو، حيث حطّ رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، بعد رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري و"حزب الله"، فلا أجواء توحي بأنّ "مبادرة على النار"، بل إنّ موسكو تبدو بدورها كمن سلّم بالأمر الواقع، ورفع يده تفاديًا للصداع.
وبين هذا وذاك، عاد الحديث عن "وساطة" البطريرك الماروني بشارة الراعي الحكوميّة، وسعيه لإعادة "كسر الجليد" بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف، وبشكلٍ أكثر شموليّة، بين الحريري وباسيل، من دون أن يظهر ما يبعث إلى التفاؤل...
"السلبيّة" تطغى دوليًا
قد تكون "وساطة" الراعي الأكثر زخمًا بين كلّ ما سبق، والوحيدة التي يمكن "البناء" عليها، إن صدقت التسريبات في شأنها، وإن كان "مصيرها" برأي كثيرين محكومًا سلفًا بالفشل، كونها جُرّبت سابقًا، فضلاً عن وجود قناعة راسخة لدى العارفين والمراقبين بأنّ حلّ الأزمة لا يمكن أن يكون داخليًا، في ضوء كلّ التعقيدات التي تتخبّط فيها.
أما سبب البناء على هذه "الوساطة"، فهو ببساطة أنّ لا وجود لغيرها على الساحة حاليًا، باعتبار أنّ الإعلان الفرنسي عن الشروع في القيود على المسؤولين اللبنانيّين، ولو أنّه يأتي من باب "الضغط" وفق ما يسرّب البعض، لا يعني سوى "التسليم" بفشل المبادرة الفرنسيّة، وبالتالي "الاستسلام" بشكلٍ أو بآخر، خصوصًا أنّ التجربة دلّت على أنّ العقوبات لم تساعد على الحلّ، بقدر ما كان دورها "مشوّشًا"، وبالتالي مُعرقِلًا، بمعزل عن حقيقة "النوايا" خلفها.
ومع أنّ موسكو أوحت بالعمل على "مبادرة" قد تكون "بديلًا" في حال سقوط المبادرة الفرنسية، وهو ما عدّه مراقبون جزءًا من "الصراع الدوليّ" بين موسكو والغرب، وباريس جزء أساسيّ من الأخير، إلا أنّ أيّ "تباشير" لمبادرة روسية حقيقيّة لم تظهر حتى الآن، بعيدًا عن الزيارات "المكوكية" لمسؤولين لبنانيّين إلى العاصمة الروسية يكرّرون من منبرها مواقفهم المُستهلَكة في الداخل، مصوّبين على بعضهم بعضًا، من دون إبداء أيّ انفتاح على "التنازل".
ولعلّ منحى "الانكفاء" الدوليّ هذا يتعزّز مع المستجدّات على خطّ العلاقة مع المملكة العربية السعودية، والتي يعتبرها الكثيرون "جوهر الأزمة"، إذ إنّ القرار السعودي منع مرور المنتجات الزراعية اللبنانية عبر أراضيها، لم يُفهَم في دوائر القرار، سوى على أنّه "رسالة سلبيّة" إلى المعنيّين في الداخل اللبنانيّ، علمًا أنّ الرياض "تعمّدت" منذ اليوم الأول لتكليف الحريري، "النأي بنفسها" عن الملفّ الحكوميّ بالمُطلَق، في "تكتيك" تمسّكت به رغم الضغوط الفرنسيّة.
هل تنجح "وساطة" الراعي؟
في ظلّ هذه الأجواء "السلبيّة" الطاغية على خط المبادرات الدوليّة، عاد الحديث عن "وساطة" البطريرك الراعي، من دون "رهانات" كبيرة، إذ اقتصرت على فكرة "كسر الجليد" بين عون والحريري، وبالتالي إنهاء "القطيعة" المستمرّة بينها منذ اللقاء الناريّ الشهير في قصر بعبدا، وصولاً إلى محاولة لإقناع الحريري بالتراجع عن "تصلّبه" لجهة الاجتماع مع باسيل، لاعتقاد كثيرين أنّ لقاء من هذا النوع قد يكون عمليًا "مفتاح الحلّ".
وتشير المُعطيات المتوافرة إلى أنّ هذه الفكرة بُحِثت أولاً خلال العشاء الذي عقد قبل أكثر من أسبوع بين الراعي وباسيل في بكركي، قبل أن يُستكمَل خلال زيارة البطريرك الماروني إلى قصر بعبدا، والتي جاءت "مختلفة" في الشكل على الأقلّ عن زياراته السابقة، كونها لم تستبق أو تتلُ جولة خارجيّة، ما أوحى بأنّ "مضمونها" مرتبط بوساطة يسعى البطريرك الماروني للعمل عليها بشكل أو بآخر.
لكنّ مؤشّرات بالجملة توحي بأنّ الراعي لم ينجح، حتى الآن على الأقلّ، في تحقيق الحدّ الأدنى من "الخرق" المطلوب، بدليل السجالات التي اندلعت بعد لقائه باسيل، والتي كان الأخير جزءًا أساسيًا منها، بل هناك من يتهمه بـ"افتعالها" في مؤتمره الصحافي الشهير، الذي استدعى ردًا "ناريًا" من تيار "المستقبل"، علمًا أنّ هذه الأجواء لم تغِب حتّى عن زيارة باسيل إلى موسكو، حيث كرّر الهجوم على الحريري ودعوته إلى الاعتذار في حال عدم قدرته على التأليف.
وثمّة من يرى أنّ "أسُس" المبادرة التي يُحكى عنها لا تلقى قبولاً لدى الحريري، فهي وإن كانت تنصّ على رفض "الثلث المعطّل"، تضيف مبدأ "النصف زائدًا واحدًا" إلى جوهر الأزمة، فضلاً عن كونها تحسم مبدأ حصول رئيس الجمهورية على حقيبة الداخلية، وهو ما لا يزال محطّ جدل، علمًا أن هذه الوزارة بالتحديد تشكّل "عقدة" على خط الحكومة، إذ سبق أن وافق الحريري على التنازل عنها، ثمّ تراجع على وقع الرفض "السنّي" لمثل هذه الخطوة.
لا حكومة ولا من يحزنون!
بعيدًا عن كلّ العقد الظاهرة التي لا تزال تحول دون تأليف الحكومة، ثمّة من يتحدّث عن "عقد حقيقيّة" مختلفة ومغايرة لكلّ ما يتمّ ترويجه، وتوحي بأنّ لا حكومة ولا من يحزنون إذا لم يتمّ حسمها وحلّها مُسبَقًا.
من هذه العقد على سبيل المثال لا الحصر، العلاقة مع السعودية، إذ يعتقد كثيرون أنّ الحريري لن يؤلّف الحكومة، ما لم يحصل على "مباركة" المملكة سلفًا، وما حصل أخيرًا على خطّ العلاقة معها لا يوحي بأنّ مثل هذا "الضوء الأخضر" قد يصدر في المدى المنظور.
لكن، قبل هذه العقدة، ثمّة من يعتقد أنّ المشكلة الحقيقية تتمثّل في "الانفجار الاجتماعي" المتوقَّع، في ضوء تفضيل الحريري أن تتجرّع حكومة تصريف الأعمال الحاليّة برئاسة حسّان دياب تجرّع "قنبلة" رفع الدعم، حتى لا تكون "باكورة" عمله، وهو ما يرفضه دياب.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ كلّ ما يتمّ التركيز عليه يبقى مجرّد "قشور" لإلهاء الرأي العام، لا قيمة فعليّة لها، لأنّ القرار المُتّخَذ هو أنّ لا حكومة ولا من يحزنون، حتى إشعار آخر لا يبدو قريبًا، رغم كلّ المصائب والويلات!.