منذ فترة غير بسيطة، تشهد السياسة الفرنسيّة إزاء لبنان "تخبّطًا"، إن جاز التعبير، بدأ مع تأجيل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارته إلى بيروت، أو بالأحرى إلغائها عمليًا، ولجوء المسؤولين الفرنسيّين لاعتماد سياسة "العصا والجزرة" في مقاربة الأزمة اللبنانية، نتيجة اصطدام مبادرتهم بالحائط المسدود.
على خطى هذا "التخبّط"، جاءت التسريبات المكثّفة في الأيام الأخيرة عن عقوباتٍ ستفرضها باريس على عدد من المسؤولين اللبنانيّين، الذين صُنِّفوا في خانة "معطّلي" تأليف الحكومة، الأمر الذي أكّده وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الأسبوع الماضي، من دون تحديد طبيعة هذه العقوبات، ولا الشخصيات "المُستهدَفة" بموجبها.
ومع أنّ مصادر متقاطعة ذهبت إلى حدّ تأكيد أنّ هذه العقوبات باتت "سارية"، أو بالحدّ الأدنى "بحكم الأمر الواقع"، فإنّ لودريان، وبدل أن يكشف ملابساتها وتفاصيلها، أعلن عن زيارةٍ إلى لبنان الأربعاء المقبل، لم تَخلُ بدورها من "الغموض"، سواء على خطّ جدول الأعمال، أو حتّى اللقاءات، بعدما كشفت "تسريبات" عن "حصرها" في نطاق ضيّق.
فما هي الأهداف الحقيقيّة لزيارة لودريان إلى بيروت بين خياري الدبلوماسية والعقوبات؟ هل تشكّل محاولة جديدة، وربما أخيرة، لإنعاش وبالتالي إحياء المبادرة الفرنسية القابعة في "موت سريري" منذ أشهر، أم أنّها، على العكس من ذلك، ستشكّل مناسبة لرفع فرنسا يدها عن لبنان بالكامل، وبالتالي إعلان "موت" المبادرة عن بكرة أبيها؟!.
"سيناريوهات" متعدّدة لزيارة لودريان
قد لا تكون الإجابة على هذه الأسئلة يسيرة قبل "استكشاف" معالم الزيارة الحقيقية، أو بالحدّ الأدنى، اتّضاح "أجندتها"، بعيدًا عن التسريبات والتسريبات المُضادة، لأنّ كلّ "تفصيل" على هامش هذه الزيارة قد يكون له مفاعيله ودلالاته.
فإذا كان وزير الخارجية الفرنسي سيلتقي خلال زيارته، بصورة رسمية أو غير رسمية، مختلف الأفرقاء المعنيّين بتأليف الحكومة، وفق ما أشارت التقارير الأولية، التي ذهب بعضها لحدّ توقّع جمعهم في جلسة واحدة، على شاكلة جلسة قصر الصنوبر الشهيرة، فإنّ ذلك سيعني أنّ فرنسا تواصل مساعيها للضغط على المسؤولين، في محاولة لإحداث أيّ "خرق" من شأنه أن يكتب "النجاح" لمبادرةٍ يرى كثيرون أنّ لا حلّ فعليًّا للأزمة، من دون السير بمقتضياتها.
أما إذا صحّ ما يُحكى عن أنّ لودريان لن يلتقي في بيروت سوى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، من دون أن تشمل لقاءاته حتّى رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، فضلاً عن رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، فإنّ ذلك قد يكون مؤشّرًا شديد السلبيّة ستكون له مفاعيله السياسيّة الفوريّة، علمًا أنّ الكثير من المعنيّين بالتأليف يردّدون على مسامع زوارهم أنّ ما بعد زيارة لودريان لن يكون كما قبلها.
وإذا كان ثمّة اعتقاد راسخ بأنّ الكثير سيتأسّس على زيارة لودريان، ربما إيجابًا، ولكن على الأرجح سلبًا، فإنّ هناك من يشير إلى أنّ مجرّد حصول الزيارة يفترض أن يكون عاملاً مشجّعًا، فهو يكسر في مكانٍ ما "العزلة"، وينهي مرحلة "التجاهل" التي اتبعتها فرنسا كغيرها في الأسابيع الماضية، وإن كانت بعض المعلومات تتحدّث عن "انحدار" للملف اللبناني في دوائر صنع القرار الفرنسيّة، بعدما تخلى الرئيس إيمانويل ماكرون عن إدارته، وكلّف وزير الخارجية بمتابعته.
محطة "مفصليّة" للمبادرة الفرنسيّة
في مُطلَق الأحوال، وبمُعزَلٍ عن "السيناريو" الحقيقيّ الذي ستفضي إليه زيارة لودريان، ثمّة من يؤكّد سلفًا أنّ لغة "التأنيب" ستكون المهيمنة على خطاب الرجل في كلّ الأحوال، حيث سيبتعد عن اللهجة "الدبلوماسية"، ليحمّل المسؤولين اللبنانيين مباشرةً مسؤولية أخذ البلاد نحو المجهول، وتفويت كلّ الفرص التي كانت مُتاحة للعبور إلى مرحلة الإنقاذ، بعدما تبنّى المجتمع الدولي بأسره مقولة لودريان نفسه الشهيرة "ساعدونا لنساعدكم".
وفي وقتٍ يشير بعض العارفين إلى أنّ العقوبات التي لوّح بها لودريان قبيل زيارته، ستدخل حيّز التنفيذ عاجلاً أم آجلاً، وبالتالي فهي غير خاضعة "للنقاش" بين الرجل ومن سيلتقيهم، بل قد تكون الزيارة ممهّدة لإعلانها بصورة رسميّة، ثمّة من يعتقد أنّ الفرنسيّين يبنون على هذه المحادثات لتفادي سيناريو "العقوبات"، على طريقة "الفرصة الأخيرة"، ولو أنّ الرهان عليها لا يبدو واسعًا، بالنظر إلى التجربة التي عايشوها بأنفسهم في مختلف محطّاتها.
أما مَرَدّ هذا الاعتقاد فهو وجود قناعة بأنّ إعلان العقوبات سيكون نقطة "مفصليّة" على خط المبادرة الفرنسية، لن تعني سوى "موتها الحتميّ"، لا "السريريّ" هذه المرّة، خصوصًا أنّ الفرنسيّين يدركون قبل غيرهم أنّ من شأن أيّ عقوبات "التشويش" على جهود الحلّ، وسبق لهم أن اختبروا هذا الأمر عند فرض العقوبات الأميركية على الوزراء علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، ومن ثمّ جبران باسيل، وقيل إنّهم "لاموا" الأميركيين على توقيتها.
ولعلّ ما يزيد من "تعقيد" المشهد أنّ ثمّة من استبق إعلان العقوبات عبر التقليل من وقعها، ما يجعل أيّ رهانٍ عليها لتغيير المواقف بخانة "المعدوم"، بل إنّ هناك من يخشى أن تؤدّي إلى "انفجار" الأزمة من جديد، سواء تمّ حصر هذه العقوبات بفريقٍ محدّد دون غيره، ما من شأنه إظهار فرنسا بموقع "المنحازة"، أو إذا ما اعتُمِدت سياسة "المساواة" في تحميل المسؤوليات، علمًا أنّ هناك من نقل عن الحريري مثلاً أنّه "سيقلب الطاولة على الجميع" في هذه الحالة.
ترجيحات "متشائمة" تطغى
لعلّ "طغيان" الترجيحات "المتشائمة" على ما يمكن أن تحقّقه زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى بيروت أكثر من معبّر، ولو أنّ البعض، وهم قلّة، متفائلون بقدرتها على إحداث "خرق"، استنادًا إلى بعض العوامل الإقليمية والدولية "المشجّعة".
تتقاطع كلّ المعلومات على أنّ لودريان آتٍ لـ"تأنيب" اللبنانيين، فيما تتفاوت التقديرات حول "أهداف" الزيارة، بين من يعتبرها "فرصة أخيرة" لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن يضعها في خانة إعلان باريس "رفع يدها" عن لبنان، مع ما لذلك من تبعات.
في كلّ الأحوال، يبقى الأكيد بحسب ما يرى كثيرون من العارفين والمتابعين أنّ "مفتاح الحلّ" ليس في يد باريس، التي جرّبت سياسة "الجزرة" فأخفقت، ويبدو أنّ مصير سياسة "العصا" التي لوّحت بها، وقد تستخدمها، لن يكون بعيدًا في الشكل والمضمون.
ثمّة من يعتقد أنّ هذا المفتاح موجود في السعودية، وثمّة من يربطه بالصراع بين الرياض وطهران، إلا أنّ الحقيقة أنّه، وبمُعزَلٍ عن كلّ هذه التفاصيل، أساسًا في لبنان، وما لم تتوافر الإرادة لاستخدامه لـ"تحرير" الوطن، فلا حلّ يُرتَجى من زيارة من هنا أو عقوبات من هناك...