أثارت تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يوم الثلاثاء 27 من نيسان 2021، جدلاً واسعاً في الوسط السياسي حيث أحدث كلامه عن موقف بلاده من إيران نقاشاً حول التغير السعودي الأخير مقارنة مع الموقف الذي أطلقه الأمير محمد بن سلمان عام 2017 حيث شدد على مواجهة المشروع الفارسي في المنطقة وظهر حينها مصمماً على نقل المعركة إلى الداخل الإيراني.
وفيما بدا تبدلاً ملحوظاً في لهجة الرياض قال ولي العهد السعودي في مقابلته التليفزيونية الأخيرة: إن إيران دولة جارة، وكل ما نطمح إليه أن يكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها. وأضاف: لا نريد وضع إيران أن يكون صعباً، بالعكس نريد من إيران أن تكون دولة مزدهرة وتنمو لأن لدينا مصالح فيها وفي المقابل فإن الإيرانيين لديهم مصالح في المملكة العربية السعودية ولذلك نحن نطمح لأفضل العلاقات بيننا لدفع المنطقة نحو النمو والازدهار.
وقبل الدخول في الأسباب التي أدت إلى تحول الموقف السعودي من إيران ومدى جدية هذا التحول، علينا العودة بالتاريخ للوراء قليلاً لفهم طبيعة الأمور التي كانت سائدة والظروف التي فرضت على السعودية اتباع هذا المناخ الإيجابي مع طهران وأنصار اللـه في اليمن.
من المعروف أن المملكة ومنذ تأسيسها لم تخرج يوماً من العباءة الأميركية إلا أنه وفي عهد الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق باراك أوباما شهدت العلاقات السعودية الأميركية نفوراً واضحاً خصوصاً بعد القرار السعودي الدخول في حرب «عاصفة الحزم» ضد اليمن، الأمر الذي عارضه باراك أوباما، ما يعني أن قرار الحرب على اليمن كان أحادياً من جانب السعودية الأمر الذي اعتبرته الإدارة الأميركية محاولة سعودية لتوريط أميركا في تلك الحرب تحت شعار مواجهة المخطط الإيراني التوسعي في المنطقة.
ومع انتهاء ولاية أوباما في البيت الأبيض وانتخاب دونالد ترامب الجمهوري، تنفست السعودية الصعداء بعد إزاحة كابوس أوباما واستجابة إدارة ترامب لطلب السعودية بتقديم الدعم اللوجستي والعسكري والمخابراتي في حربها على اليمن، مقابل صفقات أسلحة أميركية لصالح السعودية قدرت بمليارات الدولارات في وقت تلازم وطلب العدو الصهيوني من دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر بفرض عقوبات قاسية على إيران مقابل الدفع السعودي.
ترامب قالها للسعودية وبوقاحة: حمايتكم مقابل أموالكم، واعتقدت السعودية بأن استمرار الدعم الأميركي «الترامبي» سيؤمن حماية السعودية حتماً وسوف يضمن لها الفوز بحرب اليمن وقلب الموازين لصالح السعودية.
إلا أن السحر انقلب على الساحر بعد خروج ترامب الجمهوري من البيت الأبيض ليحل مكانه نائب أوباما الديمقراطي جو بايدن من دون أن تتمكن السعودية من تحقيق أي من أهدافها في اليمن بعد ست سنوات من الحرب المتواصلة مقابل تطور سريع في قدرات الحوثيين حيث باتت صواريخهم تهدد العمق السعودي.
وللإضاءة على الأسباب الكامنة وراء التغيير الذي طرأ على الموقف السعودي من إيران ومن أنصار اللـه ومن حرب اليمن علينا ملاحظة الآتي:
في أول خطوة بعد دخوله البيت الأبيض بادر بايدن إلى إشهار سيف ملف مقتل جمال خاشقجي بوجه ولي العهد السعودي، وفي خطوة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى من حيث الأهداف الإستراتيجية لإدارة الديمقراطيين، أعلن بايدن وقف إمداد السعودية بالأسلحة الأميركية المستعملة في الحرب على اليمن ومما قاله بايدن: إن حرب اليمن حرب عبثية أسهمت في أكبر مأساة إنسانية في المنطقة ويجب العمل لوقف هذه الحرب المدمرة في اليمن.
أدركت السعودية أن نمطاً جديداً من التعاطي الأميركي الديمقراطي معها، على عكس التعاطي الجمهوري، بدأ يفرض نفسه، وأن أميركا ما بعد ترامب لن تكون كما قبلها.
بيد أن السعودية حاولت رفض الواقع الأميركي الجديد وكعادتها أوغلت في هذا الرفض بانفتاحها المستتر على العدو الصهيوني متخذة عدة خطوات ترجمت بالسماح للطائرات الإسرائيلية التحليق في أجواء السعودية، وفي خطوة أكثر تعبيراً عن الانفتاح السعودي على العدو الإسرائيلي ترجمها لسان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان بعدم ممانعة السعودية من التطبيع مع العدو الصهيوني لأن فوائده على المنطقة ستكون عظيمة، في إشارة سعودية واضحة بالموافقة على صفقة القرن وإن ربطتها بتقدم عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لكن السعودية أصيبت بخيبة صادمة خصوصاً بعد انكشاف ضلوع مستشار ولي العهد السعودي باسم عوض اللـه في محاولة الإطاحة بملك الأردن عبد اللـه الثاني الذي اعتبر بدوره العقدة الكأداء بوجه تنفيذ صفقة القرن.
طرح في الوسط السياسي سؤال مهم تمحور حول إذا ما أدركت السعودية حقيقة موت صفقة القرن، وأنها في طور خسارة أوراقها في اليمن وإيران وحتى في المنطقة، أم إنها تخبئ في جعبتها أمراً.
بقي في جعبة السعودية ورقة أخيرة وهي وضع العراقيل وتعطيل الهرولة الأميركية الديمقراطية الآيلة لعقد صفقة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، فالسعودية أوكلت للعدو الإسرائيلي مهمة تعطيل العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي.
جاءت محاولات العدو الصهيوني بشن عمليات تخريبية في مفاعل نطنز، واغتيال علماء نوويين إيرانيين، ثم البدء بشن حرب على السفن الإيرانية في عرض البحر، مخيبة للآمال خصوصاً بعد الرد الإيراني المماثل بل والموجع للعدو الإسرائيلي وفي عدة أماكن وحتى في داخل الكيان الصهيوني.
العدو الإسرائيلي أرسل وفداً أمنياً رفيعاً إلى واشنطن واجتمع بوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين بحضور رئيس مكتب الأمن القومي في الدولة العميقة في محاولة أخيرة لتعطيل الاندفاعة الأميركية نحو إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران في خطوة اعتبرت بالمحاولة اليائسة.
ومع أن الوفد الإسرائيلي حظي بلقاء مع الرئيس الأميركي جو بايدن، تمخض عنه موقف أميركي حازم بمنع العدو الصهيوني وحلفائه في المنطقة من القيام بأي عمل طائش من شأنه تعطيل مصالح أميركا الإستراتيجية وأهمها الإصرار الأميركي بالعودة للاتفاق النووي وتنفيذ ورفع عقوبات ترامب عن إيران ولو بشكل تدريجي.
أدرك الإسرائيليون ومعهم السعوديون بأنه قضي الأمر، وأن ما كتب قد كتب، فتحول الخطاب الإسرائيلي من الرفض العلني إلى المطالبة بتعويضات حسية مقابل العودة الأميركية للاتفاق مع إيران.
خسرت السعودية رهانها على العدو الصهيوني كبديل عن رهانها على الأميركي، ولم يعد أمام السعودية إلا البحث عن مدرج آمن يمكنها من تنفيذ الهبوط الاضطراري.
من المبكر القول: إن المنطقة ستشهد تحولات وتبدلات كبرى في الخيارات وفي المواقف إن على الصعيد التكتيكي أو الإستراتيجي، ورغم الترحيب الإيراني لطلب الهبوط السعودي، فإنه من المفيد التذكير بأنه يمكن سوق الخيل إلى النهر لكن لا يمكن إجبار الخيل على الشرب من مياه النهر.
يبقى أن نقول: إن الهبوط السعودي الاضطراري والآمن والأقل تكلفة، والذي يحفظ ماء وجه السعودية لا يمكن إتمامه بنجاح إلا بعد هبوط طائرة ولي العهد السعودي في مطار دمشق الدولي والإعلان عن تخلي السعودية عن كل رهاناتها الخاسرة وبعودتها للعمق العربي الإستراتيجي ولقلب العروبة النابض سورية والتوجه بالتهنئة المباشرة للرئيس بشار الأسد لفوزه بالانتخابات الرئاسية القادمة.