طرحت المواقف التي أعلنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال مقابلة تلفزيونية أجراها مؤخراً، العديد من التساؤلات حول مغزاها ودلالاتها، لا سيما لناحية:
ـ اللغة الجديدة التي استخدمها تجاه العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي اتسمت بالنبرة الدبلوماسية الهادئة والانفتاح على الحوار وتطبيع العلاقات معها، انطلاقاً من المصالح المشتركة بين البلدين، الأمر الذي يشكل تحوّلاً في الخطاب والموقف السعودي من إيران.
ـ الانفتاح على انصار الله في اليمن والاستعداد للحوار معهم والإقرار بأنهم يمنيون عرب، ودعوتهم إلى «تفضيل عروبتهم على علاقتهم مع إيران»، كما قال.
ماذا يعني هذا التبدّل في خطاب ولغة ولي العهد السعودي إزاء إيران وانصار الله؟
وما هي علاقة ذلك بما يجري من مفاوضات في فيينا، بين إيران ومجموعة الـ 4+1 حول شروط العودة المتزامنة الأميركية الإيرانية للالتزام بالاتفاق النووي؟
أولاً: من الواضح لأي متابع أن هذه لغة جديدة تعتمدها الرياض في مخاطبة طهران، غير معهودة من قبلها لسنوات طويلة، لناحية الحديث عن العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واعتبار إيران جارة ويجب ان تكون هناك علاقات مشتركة طبيعية وطيبة معها ومصالح مشتركة، وقوله أنه لا يريد أن يكون هناك وضع صعب في إيران، واذا كان قد تحدث عن خلافات حول بعض الملفات، لناحية موقف إيران من دعم حركات المقاومة، أو موضوع برنامجها الصاروخي البالستي، أو لناحية اتهامها بأنها تريد تصنيع السلاح النووي، فهذه ملفات هي موضع تباين بين السعودية وإيران، لكنها لن تكون سبباً لاستمرار القطيعة بين البلدين، بل أنّ ذلك لا يحول دون أن تكون هناك علاقات طبيعية ومتبادلة بينهما، وهذا يؤشر إلى أن هناك توجهاً سعودياً للحوار مع إيران، الأمر الذي يؤكد المعلومات التي كشفت عن لقاء جرى بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين في بغداد لتطبيع العلاقات وإيجاد حلول للمشكلات بين البلدين تضع حداً لتوترات القائمة بينهما.
وهذا هو مطلب إيران منذ البادية، بأنّ الحوار هو السبيل للتفاهم بين دول المنطقة وإقامة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل والمنفعة والمصالح المشتركة بعيداً عن التدخلات الأجنبية، لا سيما التدخلات الأميركية «الإسرائيلية»، التي تقف وراء توتير العلاقات بين دول الخليج وإيران وتقف وراء كلّ من حصل من اضطراب وفوضى في المنطقة، وهو أمر لا يصبّ في مصلحة دول المنطقة.
ثانياً: إنّ هذه اللغة الانفتاحية على إيران إنما تشكل نقيضاً للسياسات العدائية التي اعتمدها ابن سلمان بالتحالف مع «إسرائيل» والعمل على تشكل تحالف عربي معها في مواجهة إيران، في سياق خطة لتحويل الصراع من صراع عربي «إسرائيلي» إلى صراع عربي إيراني، وكل هذه المغامرات التي راهن فيها ابن سلمان على شنّ الحرب على إيران بالاستناد على الدعم «الإسرائيلي» والعلاقة مع الولايات المتحدة، التي كانت تقف، بالتعاون مع «إسرائيل»، وراء توتير العلاقات بين الخليج وإيران لأجل ربطها بالعلاقات مع «إسرائيل»، وبيع السعودية ودول الخليج الأخرى صفقات السلاح الضخمة بحجة مواجهة «الخطر والتهديد الإيراني».
ثالثاً: من اللافت أن استدارة ابن سلمان تجاه تطبيع العلاقات مع إيران إنما تتزامن مع جنوح واشنطن، مكرهة، نحو الاتفاق مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات المفروضة عليها، وهذا يؤشر أن هذا الجنوح الأميركي ينعكس اليوم بتبدّل الخطاب السعودي تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
رابعاً، كما أنّ استدارة ابن سلمان لها علاقة مباشرة بالحرب على اليمن وحاجته الماسة والملحة لإنهاء هذا الحرب وإيجاد تسوية سياسية لها بعد أن غرقت المملكة السعودية فيها وفشلت في تحقيق أي هدف من أهدافها، وباتت مجرياتها الميدانية تشير إلى تحوّلات نوعية في مصلحة انصار الله واللجان الشعبية والجيش اليمني.. وبالتالي أصبحت فاتورتها مكلفة جداً للرياض، اقتصادياً ومالياً وسياسياً وعسكرياً، مع كلّ يوم تستمرّ فيه هذه الحرب، وهذا أحد الأسباب الرئيسية لتبدّل الخطاب السعودي الذي بات يريد التهدئة والخروج من وحول اليمن عبر الانفتاح على الحوار مع إيران وانصار الله.
خامساً: من البيّن أنّ ابن سلمان قرر السير على خطى واشنطن في تطبيع العلاقات مع إيران من خلال القول ان عودة العلاقات مع إيران ووضع حدّ للتوتر معها لا يعني أنه لا توجد قضايا خلافية معها، لا سيما تلك التي ذكرناها آنفا، لكن هذه القضايا لن تعيق تطبيع العلاقات، تماماً كما تفعل واشنطن التي وافقت على عدم ربط عودتها إلى الاتفاق النووي بأي تعديل كانت تسعى إليه ويهدف إلى التفاوض حول برنامج إيران الصاروخي، ودعمها لحركات المقاومة في المنطقة، اذ عمد طرحها خلال مقابلته من منطلق ربط نزاع باعتبارها قضايا خلافية مع إيران، والاستعداد للاتفاق معها في القضايا الممكنة، مثل الاتفاق النووي، والعمل لوقف حرب اليمن.. وضمان أمن الملاحة في مضيق هرمز ومياه الخليج إلخ…
ماذا تعني هذه الاستدارة السعودية التي تلاقي الجنوح الأميركي نحو العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني؟
1 ـ تسليم أميركي سعودي بالفشل في إخضاع إيران وإجبارها على تغيير سياساتها ومواقفها، أو التخلي عن سيادتها واستقلال.
2 ـ الإقرار بانتصار وجهة نظر الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال موافقة واشنطن والرياض على تحييد كل ما يخص مواقف إيران المبدئية من دعم حركات المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني والهيمنة الاستعمارية الأميركية في المنطقة، وحقها في امتلاك القدرات الصاروخية للدفاع عن نفسها، مما يشكل انتصاراً جديداً لإيران ـ الثورة، فرض بقوة النضال الإيراني الطويل، (قيادة وجيشاً وحرساً وشعباً) بفعل الصمود والمقاومة في مواجهة التهديدات الأميركية والصهيونية، وسياسيات الحصار والحرب الأمنية.. ولهذا فإنّ إيران اليوم تحصد نتائج وثمار صمودها ومقاومتها بإجبار أميركا على التسليم بحقوقها، وتراجع السعودية عن خطاب العداء والتصعيد والتوتير والتهديد بنقل الحرب إلى داخل إيران، والجنوح نحو الحوار معها وخطب ودها.
3 ـ تكريس التحوّل في المنطقة لمصلحة حلف المقاومة، فنحن أمام نتائج للحروب التي شنتها الولايات المتحدة في المنطقة، وهذه النتائج لم تأت لمصلحة أميركا وحلفائها من أنظمة تابعة و»إسرائيل»، وهو ما أدى إلى اضطرار واشنطن إلى التراجع أمام إيران، وهو الذي فرض على الرياض إعادة النظر في موقفها العدائي من إيران وطلب الحوار وتطبيع العلاقات معها.. في حين أن الخاسر الأكبر من كل ذلك هو «إسرائيل» التي كانت تراهن على توجيه بوصلة الصراع باتجاه إيران للنيل من قوتها وإضعاف دعمها لدول وحركات المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني وقوى الاستعمار الغربي وأدواتها الإرهابية.. ويمكن القول إنّ هذا التحوّل في موازين القوى يشكل هزيمة كبرى للمخططات المشاريع الأميركية «الإسرائيلية» والرجعية بدأت نتائجه بالظهور من خلال في مفاوضات فيينا وإلزام «إسرائيل» بالتكيّف مع القرار الأميركي بالعودة إلى الاتفاق النووي من دون أيّ تعديل، واضطرار الرياض إلى السير على خطى واشنطن بالانفتاح والحوار مع إيران.