منذ بدء الازمة الاقتصادية والمالية واستفحالها منذ اكثر من سنة ونصف السنة، كان الحديث يدور عن البطاقة التموينية التي يجب ان تعطى للبنانيين غير الميسورين، الذين يكافحون لتأمين قوتهم اليومي وحياتهم الكريمة. ومنذ ذلك الوقت، والمسؤولون "يتدلّعون" ويماطلون في تأمينها، الى ان دبّت النخوة فيهم منذ ايام، واراد رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب استعادة صورته السياسية بعد ان تردّد انه زار قطر لتأمين عمل له في المرحلة المقبلة، فقال انه طلب من القطريين تمويل البطاقة وابدوا اهتماماً. ولكن، يبدو ان هذا الخبر غير دقيق لأنّ دياب نفسه عاد واعلن قبل يومين انه من الممكن الا يكون التمويل قطرياً، وبالتالي تكون زيارته قد ذهبت سدى. في الواقع، يمكن القول انّ كل العمل الذي انجز كي تبصر هذه البطاقة النور (لا يزال موعد الولادة مجهولاً حتى الآن)، قد اصبح بلا قيمة، لانّ المسؤولين صدّقوا أنّ لبنان بات مقسوماً لطبقتين فقط: الفقيرة والميسورة، فيما الواقع يشير الى ان هناك قسماً يسيراً لا يزال على حدود الطبقة الفقيرة دون ان ينزل اليها تماماً، بمعنى انه يمكنه تأمين قوته اليومي، ولكن عند رفع الدعم كلياً وحرمانه من بعض الامور الاساسية، سيكون تحت خط الفقر حتماً دون ان يعترف به احد.
يحاول المسؤولون عبر هذا التدبير انقاذ انفسهم اولاً، وليس الفقراء، بدليل انهم لم يتردّدوا في نسف أي فكرة او محاولة لتخفيض رواتبهم (على الاقل خلال هذه الفترة الصعبة، ولو موقتاً) وتحويلها الى الخزينة لتعزيزها، ولم يتعبوا في تجهيز البطاقة في وقت سابق وتوفير مئات الملايين من الدولارات التي تمّ تهريبها وسرقتها باعترافهم دون قدرتهم على الوقوف في وجه هذا الامر، اضافة الى انهم يحاولون كسب مودّة العائلات التي أفقروها علّهم يحوّلونها الى اصوات في الانتخابات المقبلة والى "انجازات" يعلّقونها على حائط الاعلانات الانتخابية. وفي الحقيقة، سيجد المسؤولون انفسهم امام قسم آخر من المواطنين الذين تحوّلوا الى فقراء فعلياً، ولا يزالون بالنسبة اليهم من عداد "الطبقة الوسطى". فإذا كان هذا القسم غير الثري، قادراً على تأمين القوت اليومي، فكيف سيؤمّنه اذا لم يستطع اولاً التصرف بأموالِه في المصارف، وحتى لو كان يملك كمية من المال، كيف سيواجه جنون الاسعار التي ستتفلت من كل ضوابط عندما تدخل سوق "دومينو" لهيب الغلاء، وربط كل شيء ببعضه. اي بمعنى آخر، من الذي يتوقع الا ينعكس وصول سعر صفيحة البنزين الى 140 الف ليرة، على المواد الغذائيّة والاستهلاكيّة اليوميّة التي لن تعرف حدوداً، في ظل غياب الرقابة الفعلية وعدم ضبط سعر الدولار (في ظل التشكيك الكبير بعمل المنصّة التي اعلن عنها حاكم مصرف لبنان ولم تطبق بعد)، وهل سيعتمدون فقط على نظام التغذية الكهربائي لمؤسسة كهرباء لبنان بعد ان تصبح فاتورة المولدات الكهربائية اكثر من الحدّ الادنى للاجور؟ وماذا سيحصل اذا احتاجوا الى ادوية لمعالجة امراض غير مزمنة ولكنها تبقى خطرة على الحياة؟ وكيف ستؤمّن رواتبهم مصاريف الطعام وقارورة الغاز الباهظة والضرائب المترتبة للدولة؟ من نافل القول ان تأمين البطاقة التموينية للفقراء هو اضعف الايمان، وواجب على كل مسؤول اليوم قبل الغد، كما انه اصلاً من اموال المواطنين ولا منّة لأحد عليهم... ولكن هناك ايضاً مواطنون يتألّمون بصمت، ويعيشون كل يوم بيومه ل تأمين الحياة الكريمة لعائلاتهم، فلماذا وضعهم في خانة الاثرياء وهم ليسوا بذلك، وهل ذنبهم أنّ المسؤولين امعنوا في سرقتهم ليصلوا الى حدود الفقر ولا يتمّ الاعتراف بهم في وطنهم؟ انها فعلاً قمّة السخرية.