في ظروفٍ طبيعيّة، كنا رَحّبنا باعتذارِ الرئيسِ المكلَّف سعد الحريري، وقد مَضَت سبعةُ أشهر والحكومةُ لم تَتشَكَّل، فيما البلدُ ينهار. فكما لا يَحِقُّ وطنيًّا وأدبيًّا لرئيسِ الجُمهوريّة، أيِّ رئيسِ جُمهوريّة، أن يتأخّرَ أسابيعَ قبلَ بَدءِ الاستشاراتِ الملزِمةِ لاختيارِ رئيسٍ مكَلَّف، لا يَحِقُّ وطنيًّا وأدبيًّا أيضًا لرئيسٍ مكلَّف، أيِّ رئيسٍ مكلَّف، أن يَتأبّطَ التكليفَ ولا يُشكِّلَ حكومةً في مدّةٍ معقولة. البلدُ ليس مُلكَ "الطائف" والطوائف، ولا مُلكَ الرؤساءِ والصلاحيّات. لكنَّ عجزَ الرئيسِ الحريري ليس ناتجًا عن فشلٍ أحاديٍّ وعِناد، إنّما عن وجودِ مشروعٍ متكامِلٍ لدى المحورِ السوريِّ/الإيرانيِّ لوضعِ اليدِ على البلد. والسيطرةُ على الحكومةِ هي إحدى حلقاتِ هذا المشروعِ الانقلابيِّ الذي يَتناساه البعضُ أحيانًا.
لقد تَخطّينا مرحلةَ تحديدِ نسبةِ المسؤوليّةِ بين الرئيسِ عون والرئيس الحريري إلى مرحلةِ انكشافِ مسؤوليّةِ فريقٍ بكامِله يواظبُ على إحكامِ السيطرةِ على لبنان استباقًا مفاوضاتِ أميركا وإيران حولَ دورِ طهران المتمادي في دولِ الشرق الأوسط، بموازاةِ مفاوضاتِهما حولَ الاتّفاقِ النوويّ. لا يَجبُ أن نضيعَ في الثلثِ المعطِّل والحقائبِ وأسماءِ الوزراء. مُعضلةُ الحكومةِ أبعدُ من ذلك. ما عادت الاستحقاقاتُ الدستوريّةُ جُزءًا من النظامِ، بل من الانقلابِ المستمر. ولا يجبُ أن نُهروِلَ إلى التسوياتِ الداخليّةِ لأنَّ تسوياتٍ تجري بين دولِ المنطقةِ ولا بدَّ مِن اللَحاقِ بالقطار. هذا منطقٌ سَبقَ له أن دَمَّرَنا. التقارباتُ الجاريةُ في المنطقةِ اليوم مرحليّةٌ ومبنيّةٌ على زَغَل. وبِقدْرِ ما يُفترضُ أن نواكبَها احتياطًا، فلا نخافُ منها إذا تَحلّينا بروحِ الصمود.
في هذا الإطار، إنَّ اعتذارَ سعد الحريري عن تشكيلِ الحكومة ـــ إذا حَصل ــــ هو بَدءُ نهايةِ "اتّفاق الطائف" وضربةٌ للحالةِ السُنيّةِ الوطنيّة. والاعتذارُ هو هزيمةٌ لقوى السيادةِ والاستقلال ـــ أين هي؟ ــــ وانتصارٌ لحزبِ الله ولحلفائِه في السلطةِ وللمحورِ السوريِّ/الإيرانيِّ عمومًا. لو يُسفِر اعتذارُ الحريري عن تكليفِ شخصيّةٍ أخرى بمواصفاتٍ وطنيّةٍ، وعن تشكيلِ حكومةٍ وطنيّةٍ، لشَجَّعْناه على الاعتذار. لكن اعتذارَه ـــ عدا عن تأثيرِه السلبيِّ على مستقبلِه السياسيِّ ــــ سيكون بمثابةِ استسلامٍ للحالةِ الانقلابيّةِ ويَضعُ المؤسّساتِ الدستوريّةَ الثلاث (رئاسةُ الجُمهوريّة، المجلسُ النيابيّ، ومجلسُ الوزراء) تحت سيطرةِ المحورِ الإيرانيِّ/السوريِّ رغمَ محاولاتِ الرئيس نبيه بري تحييدَ المجلسِ النيابي. إنَّ صمودَ الرئيس الحريري هو أساسيٌّ لمنعِ اكتمالِ الانقلاب، وللانقلابِ على الانقلابِ لاحقًا.
غيرَ أنَّ صمودَ الحريري يَستدعي أن تَقِفَ جميعُ القوى السياديّةِ إلى جانبِه وتَدعمَه على أساسِ برنامجِ حكم. لقد حان الوقتُ لأن تَخرجَ هذه القِوى من انقساماتِها ودفاترِ شروطِها ومن غيبوبتِها وتتّحِدَ مع الحَراكِ الشعبيِّ الوطنيِّ في جَبهةِ إنقاذ. لا يَحِقُّ لهذه الشخصيّاتِ أنْ تَقبِضَ أو تَرِثَ أو تؤسِّسَ هذه الأحزابَ العظيمةَ، بغالِبيّتِها، وتُجمِّدَ طاقاتِها. هذه
الطاقاتُ هي مُلكُ الشعبِ والأجيالِ والشهداء لا مُلك رؤسائِها. كانت هذه الأحزابُ دومًا للوطن لا للسلطة، وتاريخُها مواجهةٌ ومقاومة.
صمودُ الرئيسِ سعد الحريري يَتطلّبُ أيضًا دعمُ الدولِ العربيّةِ والغربيّةِ وغيرهِا التي تؤيّدُ سيادةَ لبنان واستقلالَه ونظامَه الليبراليّ. إن سياسةَ الانكفاءِ المؤذي التي يُمارسها بعضُ الدولِ العربيّة، وسياسةَ التنازلِ المخْجِلِ التي يُتقِنُها بعضُ الدولِ الغربيّةِ تجاه لبنان ليستا أفضلَ استراتيجيّةٍ لمواجهةِ التمدُّدِ الإيرانيِّ والهلالِ الشيعيّ. الصديقُ عند الضيقِ لا عندَ اليُسْر. وبالتالي، لا نُلامُ إذا اعتَبرنا هذه السياساتِ بمثابةِ عقوباتٍ صديقةٍ علينا، وبعضَ الزياراتِ بمثابةِ إعلانِ إفلاس. لقد مَضى علينا خمسون سنةً ونحن نُقاتِل عنكم ونَحمي خطوطَكم الأماميّةَ والخلفيّة. فلا تُمنِّنونا بالمال، فنحن دَفعنا شهداء.
في الزمنِ الصَعبِ لا مكانَ للأصدقاءِ الرَماديّين، ولا مكانَ للتشفّي ورؤيةِ الصديقِ يَسقُطُ من دون أن تَمتدَّ يدُ العونِ إليه. ولا نَقبلُ مساواةَ من يناضلُ لبناءِ دولةٍ حرّةٍ وديمقراطيّةٍ بمَن يُجاهد لإسقاطِها وبناءِ مُـجَسَّم آخَر. ويُخطِئُ مَن يَترقّبُ لحظةَ ما قبلَ السقوطِ النهائيِّ ليتدَخّلَ. لا أحدَ يستطيعُ التَحكّمَ بتلك اللحظةِ غيرُ الآب الّذي في السماوات. اليومَ لا غدًا يَحتاج لبنانُ إلى أشقائِه وأصدقائه. فلا تُعاقبوا شعبًا بأكملِه بسببِ عصابةٍ أو منظومةٍ فاسدة. فسِّروا لنا كيف تُعيدون العلاقاتِ مع نظامِ بشّار الأسد وتَقطعونَها مع شعبِ لبنان؟ في كتابِهما "History World in Empires" الذي صَدرَ سنةَ 2010 عن جامعةِ برينستون Princeton يَذكُر المؤرِّخان جين بوربانك Jane Burbank وفريدريك كوبر Frederick Cooper أنَّ "الدولةَ الصغيرةَ التي لا تُنقَذُ في الوقتِ المناسب، يَتحوّلُ سقوطُها خطرًا على حلفائِها قبل أعدائها".
نَفهم أن يَرفضَ المجتمعان العربيُّ والدوليُّ تعويمَ هذه السلطةِ الجامحة، ونحن كذلك. لكنْ هناك بدائلُ كثيرةٌ لإنقاذِ شعبِ لبنان من محنتِه. يُمكن مساعدتُه مناطقيًّا عوضَ مساعدتِه مركزيًّا، ومن خلالِ مرجِعيّاتِه عوضَ سلُطاتِه الرسميّة. ويُمكن مساعدتُه خصوصًا في تبنّي مشروعِ عقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ خاصٍّ بلبنان وإعلانِ حيادِه. ويُمكن مساعدتُه في التحلّي بالجرأةِ على توفيرِ القدراتِ المتنوِّعةِ لتطبيقِ القراراتِ الدوليّةِ التي اتّخذْتموها أنتم بالذات. هذه هي الحلولُ التي يَحتاجها لبنان إذا كنتم صادقين بحِرصِكم على إنقاذِه والمحافظةِ على وِحدتِه المهدَّدةِ فعليًّا.
إن سياسةَ انكفاءِ الأشقّاءِ والأصدقاءِ اضْطُرّت أَفرقاءَ لبنانيّين إلى قَبولِ دخولِ القوّاتِ السوريّةِ سنةَ 1976 وقَبولِ مساعدةِ إسرائيل سنة 1982. فهل يريدُ الأصدقاءُ والأشقّاءُ دفعَ اللبنانيّين إلى هذا النوعِ من الخِيارات زائدًا الخِيارَ الإيرانيّ؟
تجاه هذه الخِيارات، وقد اكتَويْنا منها جميعًا، خِيارُنا الرفضُ والمواجهةُ والصمود، لا الانصياعُ وطأطأةُ الرؤوس. لا ضرورةَ للهلعِ ولا للإحباط. حين يكون التردّدُ في كلِّ مكانٍ لا تكون الشجاعةُ في أيِّ مكان. لكنَّ الشجاعةَ، وإن غابَت عن كلِّ مكانٍ تبقى فينا وعندَنا. ما خَسِرْنا إلا في زمنِ التسوياتِ والتنازلاتِ والهروب. وما انتصَرنا وبَقينا واسترجَعنا لبنانَ الحبيبَ إلا في زمنِ الشجاعةِ والمقاومة. فلا يُـخَيِّــرْنَا أحدٌ بين الباطلِ والباطل، ولا يَـظُــنَّــنَ أحدٌ أنْ لا خِيارَ لنا إلا هو... واضِح؟
في الثاني من آذار 1941، وفرنسا تحت الاحتلال، أَطلق الجنرالُ فيليب لوكليرك، رفيقُ الجنرالِ ديغول، قَسَمَ "كوفرا" Koufra، وفيه ألّا يتراجعَ إلّا بعدَ أن يُرفرفَ علمُ فرنسا في ماتز Metz وستراسبورغ. حبّذا لو يُقسِمُ اللبنانيّون معًا بألّا يبقى في لبنانَ علمٌ سوى علمِ لبنان.