كُلُّ إنسانٍ في هذهِ الدُّنيا بَاحثٌ، ولِكُلٍّ منّا أهدافُه. هو يُريدُ شيئًا ما، ويبتَغي أمرًا ما، حتّى الكسولُ يُريدُ الكَسلَ، أمّا نحن فماذا نُريد؟ وهل ما نريدُه مُستقيمًا أي صحيحًا أم لا؟.
فإلى جَانبِ كلِّ ما نُحَقِّقُه في الحياةِ، أو نَحصُلُ عليه، يبقى الكنزُ الكَبيرُ الفَرحُ الدَّاخليّ والسَّلامُ والطُّمأنِينة.
ولكن، هذا أينَ نَجِدُهُ وأين نَبحثُ عنه؟ الجوابُ: في جِراحاتِ السيِّد. في جَنبِهِ الّذي طُعِن. في أثَرِ المَساميرِ في يَديهِ ورِجلَيه. هذا ما تُريدُ الكنيسةُ إخبارَنا إيّاه في هذا الأحدِ المُسمَّى بِأحَدِ تُوما.
قد يَبدو للبَعضِ هذا الأمر غيرَ عاقِل. فهل يُمكِنُ للمَجروحِ أن يَشفي؟ ولِلمَطعونِ أن يُداوي؟ هذا مُمكن بالتّأكيد، لأنّه قامَ مِن بينِ الأموات، وأصلًا هُوَ القائِم أبدًا.
وليس هذا بالأمرِ المُستَغرَب، فحتّى لِأقربِ المُقرَّبينَ مِن يَسوعَ، كانت قيامتُهُ للوَهلَةِ الأُولى موضوعَ ارتِباك، إذ عندما أخبرت حاملاتُ الطّيبِ الأَحَدَ عَشَرَ تلميذًا وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بأنّهنَّ رأينَ الرَّبَّ بعدَ الصَّلب، تَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ(لوقا ١١:٢٤).
هناكَ حِوارٌ رائعٌ في رِوايةٍ فَلسَفيَّةٍ لـ"نيتشه" (١٨٨٥م) تُدعى "هكذا تَكلَّم زرادشت "Ainsi parlait Zarathoustra"، يَحثُّ الفيلسوفُ فيهِ على أن يُصبحَ المَرءُ "الإنسانَ الأعلى والقويَّ والخارقَ والجبّار "Le Surhomme".
ولكن هل يمكنُ تَحقيقُ ذلكَ خارجَ اتّزانِ الله؟ هذا خطِرٌ جدًّا.
أدولف هتلر استَعارَ عِبارَةَ "نيتشه" هذه مُعتبِرًا نفسَهُ ذاكَ الإنسانَ الخارِق.
صحيحٌ أنَّ أتباعَ الفَيلسوفِ حاوَلُوا بِقُوَّةٍ تَبرِئَةَ "نيتشه" من هِتلر، إلّا أنَّ ما هُوَ ثابِتٌ في التّاريخ: كُلُّ بَحثٍ عنِ الكَمالِ خارِجَ اللهِ عَبَثيٌّ، وتَحديدًا خارجَ اللهِ المُتَجسِّدِ والمَصلُوبِ والقَائِم.
إنطَلَقَ "نيتشه" في بَحثِهِ عنِ الإنسانِ الخارِقِ مِن أنَّ "اللهَ ماتَ" و"الله يبقى مائتًا ونحن قتلناه" وبالتالي انتهى الأمر وليس مَن يَهتَمُّ بِالبَشَر. "نحن مجرمون وقتلة. كيف نعزّي أنفسنا"؟.
هذا يَعُودُ إلى حالاتِ البُؤسِ الشَّديدةِ الّتي كانَت تَسودُ، بالإضَافَةِ إلى تغيّر طرأ في المجتمع نتيجة الثورة الصناعيّة بحيث بات الإنسان تجاريًّا ويتخلّى عن حياة الريف البسيطة، وايضًا إلى رَدَّةِ فِعلٍ لِعوامِلَ عَديدَةٍ كانت في زَمانِهِ، وحتَّى قبلَ عصرِه نتيجَةَ تَصرُّفاتٍ كنَسِيَّةٍ ومَفاهِيمَ دِينيَّةٍ غَربِيَّةٍ للأخلاقِ والحُريَّةِ والإنسانِ ككُلّ، بَعضُها خَاطئٌ وبعضُها تُرجِمَ خطأً وبَعضُها أُسيءَ فَهمُه.
وَعِبارةُ إنَّ اللهَ ماتَ أو قَد يَكونُ ماتَ اللهُ، وُجِدَت قبلَ "نيتشه" معَ فلاسِفَةٍ وأُدَباءَ كُثُر أمثال "Gérard de Nerval" و"Hegel" وقد ذَكَرَها مَثلًا "Victor Hugo" في "البُؤساء". كما وُجِدَت أيضًا في الفَلسَفَةِ اليُونانِيَّةِ قَدِيمًا "Le Grand Pan est mort"، و"Pan" كلمة يُونانِيَّةٌ بِمَعنى الكُلّ "Le Tout" هذا كلُّه يُشيرُ إلى أنَّ الإنسانِيَّةَ في بَحثٍ دَائمٍ، وتَنتَظِرُ الخَلاصَ والرَّجاء.
قد يبدو "نيتشه" وغيرُه مُعادِينَ للدّين، ولكن بِالرُّغمِ من ذلِكَ ظَلُّوا بَاحثين. وهُنا الجَمال، وهنا اللّاإلحادُ في عُمقِ الإلحاد. فحتّى كِبارُ الرَّافِضينَ يُريدُونَ مُخلِّصًا الّذي هُوَ "المُخلِّص" مِن دُونِ أن يُسمُّوه.
بِالعَودَةِ إلى "هكذا تكلَّم زرادَشت"، هُناكَ مَقطَعٌ يَحمِلُ في عُمقِهِ الكثيرَ مِنَ المَعاني.
"فبعدَ سَبعَةِ أيَّامٍ وسطَ الغَابَةِ المُوحِشَةِ استقَامَ زرادَشتُ على سَريرِهِ، وأخذَ بِيَدِهِ تُفَّاحَةً وشَمَّها، فوجَدَ أنَّ رائِحَتَها طيّبةٌ للغَايَة. عِندَها خاطَبَتْهُ الحيواناتُ مُستَغِلَّةً فُرصةَ استيقَاظِه: يا زرادَشت، ها أنتَ مستَلقٍ هُناكَ لِمُدَّةِ سَبعَةِ أيَّامٍ بِعُيونٍ ثقيلَة: ألا تُريدُ أن تَقِفَ على قَدَمَيكَ أخيرًا؟ أُخرُج مِن كَهفِك: العَالَمُ في انتِظارِكَ مِثلَ الحَدِيقَة. الرِّياحُ الحَامِلَةُ الرَّوائحَ الثَّقيلَةَ، والجَداولُ تُريدُ أن تَأتِيَ إليك؛ كُلُّ الأشياءِ تُشعِرُ بِالمَلَلِ لأنَّكَ بَقيتَ بِمُفرَدِكَ لِمُدَّةِ سَبعَةِ أيَّام - أُخرُجْ مِن كَهفِكَ".
وللتُّفاحة رمزٌ كَبيرٌ. فهي في اللّاتِينيَّةِ مماثلة لكلمةِ الشَّرّ"malum"، ولِهذا نَرى أنَّها تُستَعمَلُ في الفَنّ الغَربيَ للدَّلالَةِ على الخَطِيئَةِ الأصلِيَّة، مَعَ أنَّها غيرُ مَذكُورةٍ في قِصَّةِ السُّقوط. بينَما هُنا التُّفاحةُ أصبَحت طَيِّبة. إنّه بَحثٌ عن يَسوعَ، حتّى ولو لَم يذكُره. بَحثٌ يَخرُجُ منَ اللّاوَعي لأنَّ النَّفسَ البَشرِيَّةَ لا تَرتاحُ إلّا إذا اتَّحَدَت بِخَالِقِها.
فالرب جعل بقيامته كل شيء جديدًا، انتزعنا من حالة الخطيئة والعفن إلى حالة الطهارة والنضارة والثمرة أصبحت ممتعة "La pomme est devenue agréable".
فهل لاحَظنا حتّى، أنَّ "نيتشه" في حِوارِهِ هذا يَرجُو "زرداشت" أن يَخرُجَ، مُؤَكِّدًا له أنَّ كُلَّ الأشياءِ مِن حولِكَ جاهزةٌ لمُساعدَتِكَ ولِتَكُونَ أطبَّاءك، فَقط كُن مَوجُودًا.
لِماذا هَذا التَّرجّي يا تُرى؟ وما الّذي ينقُصُ أعماقَ "نيتشه" وغيرِهِ وينقُصُنا؟ أليسَ هذا الإلهَ-الإنسانَ المُعطي الحَياة.
لقد أتَى يَسوعُ وَسطَ التَّلامِذَةِ وأعطاهُمُ الفَرح. بَقِيَ تُوما في الخَارِج حَزينًا. لم يكن مَوجُودًا حينَها. أرادَ أن يَتَحَسَّسَ ويَلمِس. هذا طَبيعِيّ. كُلُّنا نَطلُبُ ذَلِكَ. فعادَ يَسوعُ خِصّيصًا إليهِ، كما يَعُودُ خِصّيصًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنّا. عادَ لِيُعطيَهُ الفَرحَ مِن جَديد. عادَ كَيلا يَبقَى تُوما نَائِمًا في الكَهف.
وبِمُجَرَّدِ أن ظَهرَ يَسوعُ في الوَسَطِ ثانِيَةً عَمَّ الفَرحُ، عِندَها صَرخَ توما: "رَبّي وإلهي"، ليَجعَلَ مِن صَرخَتِهِ القِيامِيَّةِ قِيامَةً جَديدة لنا. المَسيحُ قام.