القرار الذي اتخذه امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بالاستنفار العسكري، خشية وجود خدعة اسرائيلية تحت ستار المناورة الأضخم التي يجريها الجيش الاسرائيلي، له ما يبرّره.
فعدا طبيعة المناورة والتي تحاكي هجوماً من الشمال والجنوب في الوقت عينه، والتي تصاحبها صواريخ تُطلق من الجبهتين معاً، فإنّ الخلفية السياسية تبقى الأهم والأكثر خطورة، وهو ما يجب التنبّه له.
ففي الكواليس الديبلوماسية، كلام حول استياء اسرائيلي من القرار الذي اتخذته الادارة الاميركية بإزالة العقوبات المفروضة على ايران، وإعادة إحياء الاتفاق النووي من دون إدخال تعديلات جوهرية عليه.
ومع عودة الوفد الاسرائيلي الأمني من زيارته الى واشنطن الاسبوع الماضي، ارتفع منسوب القلق الاسرائيلي الى الذروة، وسط تلميحات مبطنة بأنّ الجيش الاسرائيلي قادر على حماية أمن اسرائيل من دون انتظار ضوء اخضر من واشنطن. فالوفد الامني الاسرائيلي، والذي ضمّ رئيس الامن القومي ورئيس الموساد اضافة الى آخرين، سمع من كبار المسؤولين الاميركيين تصميم ادارتهم على إحياء الصفقة الايرانية، ولو من دون ادخال تعديلات تشمل البحث في برنامج الصواريخ البالستية، إضافة الى نفوذ ايران الاقليمي، من خلال القوى المتحالفة معها وفي طليعتها «حزب الله».
التبرير الذي سمعه الوفد الامني الاسرائيلي بأنّ واشنطن ستعمل على الفور بعد إعادة الاتفاق النووي الى الحياة وإزالة العقوبات، الى البدء بمفاوضات سريعة لإدخال التعديلات المطلوبة، والتي تطال الصواريخ البالستية الايرانية والنفوذ الايراني في سوريا ولبنان. ولم يجد الوفد الامني الاسرائيلي تفهماً من المسؤولين الاميركيين حيال انّ ايران، وبعد إزالة العقوبات عنها، ستستعيد انفاسها، ولن تقبل بأي بتعديلات اضافية. وهو ما لم يُقنع الوفد الاسرائيلي بالجواب الاميركي، بأنّ واشنطن ستعيد فرض العقوبات مرة جديدة، وانّ ايران ستحسب الف حساب، كونها اختبرت النتائج القاسية على اقتصادها. ذلك أنّ اسرائيل تعتقد، انّه حال ما يجري اعادة العمل بالاتفاق، ستستدير إدارة بايدن باتجاه ملفات تشكّل اولوية لها، مثل معالجة الانقسام داخل المجتمعات الاميركية، والانطلاق للبدء بتطبيق استراتيجية احتواء التمدّد الصيني.
واللافت، انّ الاعلام الاميركي بالكاد ذكر زيارة الوفد الامني الاسرائيلي. ففي العادة، كانت زيارات مشابهة تلقى اهتماماً واسعاً في الصحافة الاميركية خصوصاً وانّها بمثابة الإجتماع الرسمي المباشر الاول مع الادارة الديموقراطية. لذلك، تناقلت الكواليس الديبلوماسية مناخاً اسرائيلياً غاضباً، حرصت اسرائيل على ابقائه خارج التداول الاعلامي. وفي الكواليس الديبلوماسية، انّ اسرائيل مصممة على حماية أمنها بقوتها الذاتية ومن دون إذن من أحد.
وجاءت المناورة الاسرئيلية الأضخم في تاريخ اسرائيل لتحاكي هذا الاستياء الاسرائيلي. وفي المقابل فسّرت الديبلوماسية الاميركية الحركة الاسرائيلية بأنّها في اطار سعي القوى المتضرّرة من التفاهم الاميركي - الايراني للتخريب عليه.
في الواقع، تابعت واشنطن بكثير من التمعن الأحداث التي اندلعت في القدس. هي راقبت من دون شك التصعيد الذي وقف خلفه متشدّدون اسرائيليون، وأنّ الهدف خلق اضطرابات وفتح احتمالات التصعيد الى ذروتها، وهو ما يؤدي الى التشويش على التفاهم مع ايران، خصوصاً وانّ اسرائيل التي تعيش ازمة حكومة منذ اكثر من سنتين، ما ادّى الى اربع انتخابات متلاحقة، تعمل على الذهاب الى تشكيل حكومة وحدة وطنية، بذريعة تفادي انتخابات خامسة.
لكن في الواقع، فإنّ التاريخ يشير الى انّ الحكومات من هذا النوع، يدفع في نهاية الامر الى قرارات كبيرة وخطيرة.
في المقابل، كان لا بدّ للاميركيين من فك شيفرة القوى الفلسطينية المواجهة، وما اذا كان هنالك من يلاقي الاسرائيليين في التصعيد، بهدف ضرب احتمالات الاتفاق الاميركي - الايراني. وبمعنى أوضح، ماذا اذا كانت هنالك أجنحة معينة ترفض الاتفاق من اساسه مع الاميركيين.
ولأنّ الرئيس الاميركي يبدي خشيته من تصعيد الفريق المعارض لحصول الاتفاق بين واشنطن وطهران، أرسل ثلاثة وفود الى الشرق الاوسط، وحمّلهم رسالة واحدة: لعدم الإنجرار في أي خطوة تصعيدية في هذه المرحلة.
الوفد الأول ضمّ مستشار وزارة الخارجية ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى ونائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الاوسط، اضافة الى منسق مجلس الامن القومي للشرق الاوسط. هذا الوفد جال على الامارات والاردن والسعودية ومصر.
أما الوفد الثاني فترأسه النائب في الحزب الديموقراطي كريس كونز، وهو المعروف بقربه من الرئيس الاميركي جو بايدن، الذي كان قد ارسله كموفد رئاسي الى اثيوبيا في مهمة رسمية قبل اسابيع معدودة. وهذا الوفد زار الإمارات، حيث التقى في ابو ظبي ولي العهد الامير محمد بن زايد.
أما الوفد الثالث فكان برئاسة السيناتور الديموقراطي كريس مورفي، والذي زار الاردن وسلطنة عمان وقطر.
هذه الوفود الثلاثة حملت رسالة مشتركة واحدة وهي: نطلب منكم العمل على خفض مستويات التوتر في المنطقة. وأعربت هذه الوفود عن ترحيبها باللقاء السعودي - الايراني، والذي حصل بوساطة عراقية، وانّ هنالك سعياً لتحقيق وقف اطلاق النار في اليمن. كما انّهم شجعوا الاتصالات القائمة لبدء محادثات جدّية بين مصر وقطر.
وكرّرت هذه الوفود مطلبها بإبقاء درجة الحرارة منخفضة في الشرق الاوسط السريع الاشتعال.
في ظلّ هذه الاجواء، زار وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان بيروت. وفي الواقع، بدت الزيارة باهتة لناحية عناوينها المتعلقة بالازمة الخطيرة التي يمرّ فيها لبنان.
لم تحمل الزيارة اي عنوان داخلي لبناني يبرّرها. فالوزير الفرنسي رفض الكلام في الملف الحكومي، وهو تحدث عن قرارات بمنع السفر الى فرنسا سرعان ما أعلنت باريس عنها رسمياً.
وقد تكون الرسالة الوحيدة ذات مغذى، هي رفضه الاجتماع بأي من الاحزاب والقوى السياسية، ومستبدلاً ذلك بلقاء مع نواب معارضين وممثلين عن مجموعات معارضة. هو كان مستمعاً اكثر منه متكلماً. لكنه حمل رسالة تقول، بأنّه طالما لن تكون هنالك حكومة فالأفضل البدء بالتحضير للانتخابات التي يجب ان تحصل في موعدها، والتي لا بدّ ان تنتج بداية تغيير للطبقة السياسية الحالية.
لكن معنى هذه الزيارة يصبح مفهوماً أكثر اذا ما جرى ربطها بالصراع الاقليمي الحاصل. ذلك أنّ لودريان، الذي استبق زيارته الى لبنان بلقاء مع وزير الخارجية الاميركية، أدرج زيارته في اطار محاذرة اي تصعيد، والعمل على إبقاء درجة الحرارة منخفضة. ومرفقاً ذلك برسالة اخرى بأنّ فرنسا موجودة في لبنان وانّها معنية بهذه الساحة الآن ومستقبلاً.
تبقى ملاحظة اخيرة للرسائل العديدة التي اطلقها امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، والذي تمّسك بإلقاء كلمته رغم وضعه الصحي الذي شرحه، ولو أنّه يدرك انّه سيكون محط تأويل من اخصامه واعدائه، ما يعني انّ رسائله لم تكن تحتمل التأجيل.
رسالته الاقوى كانت باتجاه اسرائيل، والاستعداد لأي مفاجأة عسكرية قد تُقدم عليها اسرائيل بالخديعة، وهي المتعطشة لإشعال فتيل الحرب لضرب الاتفاق الاميركي - الايراني.
ورسالة اخرى جاءت هادئة، لا بل ايجابية، حيال مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل. والرسالتان تلتقيان في هدف واحد.