تبدّلت الأسس التي كانت تحكم السياسات الدولية والإقليمية، فالمتغيرات التي طرأت على الدول العربية من جرّاء ثورات الربيع العربي، والصراع الأميركي-الصيني، ومؤخراً موجة التطبيع مع العدو الإسرائيلي أدخلت العلاقات العربية في ضبابيةً شاملة.
يعدّ الفصل بين السياسات الدولية والسياسة الداخلية اللبنانية أمر جد عسير، وذلك تبعاً لما بين الأمرين من ارتباط وتأثيرات متبادلة، إنّ كان لأهميّة موقع لبنان الإقليمية وتشابك السياسات الدولية والإقليمية عليه، أمّ للانقاسم الداخلي بين الأفرقاء اللبنانيين والرؤى المختلفة لوضع لبنان في هذه الصراعات الدولية.
فالأحلاف والتكتلات الدولية والإقليمية فرضت نفسها في الصراع الدولي على مناطق الثروات، والنظرة الجيوستراتيجية لبعض الدول. فالانطلاق من الوضع والأزمة الداخلية التي يعيشها اللبنانيون في يومنا هذا، تعني حكماً ارتباط مستقبل لبنان السياسي في الأولويات الدولية، فالثروة الغازية، والدخول في المجال الاستثماري (الكهرباء، إعادة الإعمار...) إضافةً إلى أسبابٍ أخرى شكّلت جميعها بيت القصيد لضبابية الأزمة اللبنانية وإلى عدم الوصول إلى حلّ.
إنّ الحديث عن حلّ الأزمة اللبنانية في وقتنا الحاضر وما وراء السياسات المتبعة اتجاه لبنان (الداخلية أم الخاريجية) يعوزه المنطق. فلا وجود صعوبة للتحليل عن أسباب الأزمة اللبنانية، فالمواجهة المتصلّبة بين الدول العربية على وجه الخصوص سوريا-المملكة العربية السعودية، ووجود رأي أميركي-غربي بمحاصرة سوريا ومحاولة كسرها كونها تشكّل العامود الفقري لمحور المقاومة، إضافةً إلى اللهجات عالية الحدّة من قبل الدول الإقليمية والتي وصلت إلى حدّ التدخلات العسكرية المحدودة، أدخلت لبنان في نيران السياسات الدولية، خصوصاً مع ظهور محورين دوليين، الأوّل المحور الأميركي وما يدور في فلكه من دول، والمحور الصاعد نفوذاً الصّين-روسيا وما يدور في فلكهما من دول، وبالتالي إذا قمنا بإسقاط هذا الإنقسام على وضع الدول العربي نجد أنّ هناك اختلاف في أولوياتها في التعامل مع هذا الإنقسام المحوري.
كان الأميركيون أوّل من هدّ أسس هذه المنطقة من خلال الاحتلال العسكري للعراق، بهدف السيطرة على ثروات هذا البلد العربي لأولويتين:
الأولى: دعم الإقتصاد الأميركي.
الثّانية: منع الصين وروسيا من لعب دور في العراق، الأمر الذي يدخله في موقع جيوسياسي خارج عن النفوذ الأميركي.
لقد شعر الأميركيون نتيجة سياساتهم المتبعة للسيطرة على مناطق الثروات في العالم وبطبيعة الحال الشرق الأوسط، بضرورة وضع اليد على منابع النفط والغاز وبالتالي إلى تطبيق جيوسياسية جديدة كانت أطلقت شرارتها أحداث الحادي عشر من أيلول.
وقد ساهموا في تطوير وابتداع لصور التدخلات من أجل الابقاء على سيطرة أحادية لدولة عظمة تكون محور النشاط السياسي والاقتصادي العالمي. وعندما يتمّ تهديد مكانة هذه القوة العظمة وتلقائياً التوازنات الدولية التي أوجدتها، لا يتوانى الأميركيون عن التدخل الذي قد يصل إلى القيام بعمليات عسكرية مباشرة من أجل الابقاء على التوازن وتلقائياً المحافظة على المصالح الأمريكية، وهذا ما حصل في ليبيا.
وبينما كانت السياسات الدولية لروسيا تتحسّن مع تطوّر عسكري لافت، واقتصاد صيني كبير ويرعب الأميركيين، لم يبقى الموقف الأميركي على حاله مثلما كان قبل سنوات، حيث أصبحت هناك حاجة لدى الإدارة الأميركية إلى رسم جديد لحدود نفوذها العالمي، عبر السباق مع الزمن لوضع جيوستراتيجية جديدة تمنع الصين من التمدّد وبالتالي عرقلة الغزو الإقتصادي.
فالنزاع الأميركي-الصيني، ينطلق من فكرة أنّ أميركا هرمت على قيادة العالم هذا من جهة، وأنّ الصين هي أهمّ قوّة صاعدة عالمياً، وتأثيرها الاقتصادي في أيّ بلد يدخله المستثمرون الصينيون يؤثّر على مستقبل الإستثمارات الأميركية، فالزعامة الصينية تنطلق من أرضية المشاريع والاستثمارات الاقتصادية.
فالنزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، يمرّ بماحذاة -فخّ ثيوسيديديس- هذا الفخّ الّذي سمّي بإسم المؤرّخ الإغريقي "ثيوسيديديس"، الّذي أظهر في كتابه "الحرب البيلوبونيزية"، كيف أنّ الصراع على الزعامة بين -أثينا- كقوّة مسيطرة وقائدة في ذلك الوقت، -واسبرطة- كقوّة صاعدة، أدّى إلى اندلاع نزاع عسكري بينهما. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، أمر عرض قوتها العسكرية محسوم، خصوصاً وأنّ أيّ حرب مع الولايات المتحدة الأميركية ستكون من الحروب "اللامتماثلة".
إنطلقنا عبر مناقشتنا للصراع الصيني-الأميركي، من أجل التدرج بذلك إلى الأزمة اللبنانية وإزالة الضبابية عن مكامن الحلول للأزمة اللبنانية منطلقين من أولوات الدول المؤثّرة دولياً وإقليمياً.
بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا وذلك بطلب من السلطات الشرعية في دمشق، وتفعيل عمل القواعد العسكرية الروسية، أصبحت العين روسية على لبنان، وبالتالي إدخال لبنان في قائمة الدول المؤثّر بها روسياً، الأمر الذي يعطي للقوات الروسية مجالاً حيوياً على البحر المتوسط، إضافةً إلى تمهيد الأرضية لإستثمارات روسيا كبيرة.
وأمّا على الصعيد الإقليمي لن تتوانى تركيا من العمل على تكوين نفوذ مؤثّر في عدد من الدول المحيطة بها، وذلك من أجل أنّ تكون لديها أوراق مؤثّرة في مسار أيّ حلول دوليّة ممكنة ومنها مسألة الغاز في البحر المتوسط. وهذا ما تفعله تركيا في سوريا وليبيا والعراق وإلى حدٍ ما لبنان عبر محاولة في تأسيس جبهة شعبية مؤيّدة لها.
وفي الوقت عينه وجد العدو الإسرائلي نفسه في وضع ملائم من أجل الاقتصاص من سوريا ومن ورائها المقاومة، وذلك عبر قيامه بضربات عدوانية على العديد من المواقع العسكرية السورية، إضافةً إلى تدخلات استخباراتية تدعم بعض الجماعات المسلّحة. حيث تمثّلت الأهداف التقليدية للعدو الإسرائيلي عبر سعيه لابتلاع حقوق لبنان بدايةً بالأراضي والمياه، وأخيراً بالغاز اللبناني، وذلك عبر ممارسة ضغوط بشكلٍ غير مباشر، وذلك لتحقيق أهدافه ومطامعه.
تتميّز الأزمة اللبنانية الأخيرة عن مثيلتها من الأزمات بوجود ضبابية عربية ودولية، وبالتالي غياب الراعي العربي، ولهذا ما زلنا في جمود عام، فتكون الحلول الدولية (خصوصاً إيران أميركا)، هي شرارة البداية لعلاقات عربية جديدة بين السعودية وسوريا، إلاّ أنّ أسس هذه العلاقات ستكون مختلفة عما كانت عليه قبل الحرب الكونية على سوريا، وفي الداخل اللبناني سيتأثّر الأفرقاء السياسيين بهذه العلاقات، الأمر الذي قد يظهر شخصيات جديدة إلى الواجهة السياسية.
ونتيجة لذلك، سبب ما يواجهه لبنان، هو في وجود مرحلة إنتقالية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ورسم حدود القوّة الإقتصاديّة لكلٍ منها الأمر الّذي فرض على العديد من الدول في التأخير في تحديد أولوياتها الإقتصادية والسياسية. إضافةً إلى إنتظار نتيجة المفاوضات الإيرانية/الأمريكية وما يترك ذلك من إنفراج على المنطقة العربية. أيّ دبلوماسية تجاه لبنان لن تكون ناجحة دون وجود أولوية لدى المملكة العربية السعودية وإيران للسعي من أجل حلّ الأزمة اللبنانية، خصوصاً مع تقدّم للدبلوماسية الروسية اتجاه لبنان، وإعادة إحياء العلاقات السورية العربية وبالتالي تبلور الدور السوري من جديد.