يُخطئ مَن يعتقد أَنّ الفساد إِنّما هو "صناعةٌ لُبنانيّةٌ" حصرًا، ولو أَنّه ينهش بجسد الوطن نهشًا، لانتفاء عمل أَجهزة الرّقابة عندنا، وغياب آليّات المُحاسبة... خلافًا لما هو الوضع عليه في دُول العالم المُتحضّرة والعريقة في بناء دولة المُؤَسّسات وتفعيل عمل أَجهزة الرّقابة المُتواصلة...
وعلى سبيل المِثال لا الحَصر، فقد اطّلعْتُ على أُسلوبٍ بريطانيٍّ للتّلاعُب على القانون، أَثار جدلًا واسعًا الأُسبوع الماضي، في طول البلاد وعرضها... ففي مُواجهة الأَضرار الاقتصاديّة النّاجمة عن جائحة "كوفيد-19"، يُتّهم الآن بعضُ أَرباب العمل البريطانيّين، بالسّعي إِلى تحقيق مُدّخراتٍ، باللُجوء إِلى إِجراءٍ يُثير جدلًا واسعًا، ويقضي بتسريح المُوظّفين ومِن ثمّ إِعادة توظيفهم بشُروطٍ أَدنى. وقد خاض مُوظّفو شركة «بريتيش إِيروايز» للطّيران العام الماضي، معركةً مع الإِدارة في شأن سلسلة تسريحاتٍ، ومن ثمّ إِعادة توظيف.
وكذلك واجه مُوظّفو سلسلة «أَسدا» العملاقة البريطانيّة للمتاجر الكُبرى في العام 2019، وضعًا مُماثلًا. كما وعمدت شركة «بريتيش غاز» في نيسان الماضي إِلى تسريح 500 مُهندسٍ رفضوا القَبول بعقودٍ جديدةٍ.
وتُطاول هذه المُشكلة الآن سائقي الحافلات في "مانشستر"، وعُمّال مصنع «ياكوبز دوفي إِغبرتس» للقهوة، ومُوظّفي مراكز التّوزيع التّابعة لشركة «تيسكو»، الّذين يخوضون نزاعًا مفتوحًا في شأن عُقودٍ جديدةٍ مطروحةٍ عليهم، تُندّد بها النّقابات على أَنّها مُناورةٌ للتّسريح. ولا يُعتبر التّسريح ومِن ثمّ إِعادة التّوظيف مُخالفًا للقانون في بريطانيا، لكنّ رئيس الوزراء بوريس جونسون اعتبر الأَمر مُناورةً "غير مقبولةٍ".
إِلى ذلك فقد كشف استطلاعٌ للرّأي أَجراه "الاتّحاد النّقابيّ" (ترايدز يونيون كونغرس-تي يو سي) أَنّ حوالي 10 في المئة مِن العُمّال في بريطانيا، قد واجهوا تهديداتٍ بالتّسريح إِذا لم يقبلوا بعرضٍ بإِعادة توظيفهم بشروطٍ مُخفّضةٍ، فيما ترتفع هذه النّسبة لدى الشُبّان والعُمّال المُتحدّرين مِن أَقليّاتٍ إِثنيّةٍ، على ما جاء في التّقرير البريطانيّ.
بيد أَنّ هذا الإِجراء نفسه، قد يُشكّل خُطوةً إِصلاحيّةً إِذا ما تغيّرت المُعطيات والظُّروف واختلفت رأسًا على عقب... فقد اتّخذ وزير الإِعلام اللُبنانيّ السّابق غازي العريضي هذا الإِجراء، لمُعالجة الرّواتب الخياليّة في حينه، في شركة "تلفزيون لُبنان"، إِذ أَنهى عُقود المُوظّفين، ومنحهُم تعويضاتهم كاملةً، حفظًا للحقوق، ومَن ثمّ أَعاد إِبرام عُقودٍ مَع مَن كانت الشّركة في حاجةٍ إِلى خدماتهم، ولكن هذه المرّة برواتب أَكثر واقعيّةً وإِنصافًا للشّركة، وأَكثر احترامًا لكرامة الموظّفين أَيضًا!. وبالتّالي فحين تتغيّر المُعطيات فإِنّ النّتيجة ستتغيّر حتمًا، ويكون الموضوع مفتوحًا بين مظلوميّة الشّركة أَو مظلوميّة العاملين فيها، وتنتفي العدالة إذّاك في حُضور الفساد في قوّةٍ!...
غير أَنّنا إِذا ما أَردنا أَن نُقيم مُقارنةً بين المُعطيات في بريطانيا في شأن هذا الملفّ تحديدًا، وما هو قائمٌ الآن في لُبنان، يُسجّل للنّقابات عندهُم دورٌ أَفعل مِن حيث التدخُّل لإِحقاق الحقّ، قياسًا بهشاشة الدّور النّقابيّ عندنا... فإِزاء تكرار هذه العمليّات المُنافية لرُوح القانون المعمول به في بريطانيا، ندّدت أَكبر نقابة بريطانيّة «يونايت» بإِجراءٍ "ينتشر كالوباء في أَماكن العمل"... بينما إِذا ما لحق الإِجحاف في الموظّف اللُبنانيّ، تبقى النّقابة المُنتسِب إِليها المُوظّف أَعجز مِن أَن تدعمه للحُصول على حقوقه كاملةً!...
لا شكّ أَنّ المثل المضروب هو واحدٌ بين مئات الأَمثلة عن التّلاعُب على القوانين في مُختلف بقاع الأَرض ودول العالم... ولكنّ المعيار إِنّما هو في مُستوى حُضور الدّولة وفعاليّة أَجهزة رقابتها، وفي هيبتها ومدى حرصها على تطبيق القانون. وكذلك تبرُز الحاجة إِلى إِيجاد آليّةٍ لمُواجهة الفساد: في كُلّ أَشكاله ومُختلف تجلّياته...