لا يختلف إثنان على أنّ إسرائيل لا تُفوّت مُناسبة لإنتهاك حُرمَة المُقدّسات ومنها ساحات المَسجد الأقصى، وللتنكيل بالمَدنيّين الفلسطينيّين العُزّل، ولتهجيرهم من أراضيهم وإحلال مُستعمرين إسرائيليّين مكانهم(1)، بهدف تغيير الواقع الديمغرافي في القدس وغيرها... لكن كلّ ما سبق، لا يُغيّر واقع وُجود مصلحة إسرائيليّة وأخرى فلسطينيّة لتفجير الوضع العسكري حاليًا. فما هي الأسباب، وهل يُمكن أن يتمدّد الإنفجار الأمني القائم إلى الجبهات في لبنان؟.
بالنسبة إلى الموقف الإسرائيلي الراغب بالتصعيد، فهو يَنطلق من المُعطيات التالية:
أوّلاً: يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي فشل غداة الإنتخابات التشريعيّة الأخيرة في تشكيل حكومة جديدة، إلى البقاء في منصبه، خاصة وأنّه يُواجه مشاكل قضائيّة كبرى بتهم فساد قد تقوده إلى السجن في حال إدانته بعد خروجه من السُلطة.
ثانيًا: يسعى الجانب الإسرائيلي أيضًا إلى إفشال أيّ تقارب مُحتمل بين السُلطة الفلسطينيّة وإدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، حيث يُريد الإبقاء على حال العداء بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، وإجبار واشنطن على مُساندة حليفها الإستراتيجي الأساسي في الشرق الأوسط، كما كانت الحال عليها خلال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ثالثًا: يطمح الجانب الإسرائيلي إلى التأثير سلبًا على المُفاوضات القائمة على مُستوى الملفّ النووي الإيراني، لجهة توتير الوضع في أكثر من ساحة إقليميّة، وإتهام إيران بالوقوف خلف الدعم الذي تستفيد منه الفصائل المُسلّحة التي تُقاتل إسرائيل وغيرها من القُوى "المُمانعة" في المنطقة.
في المُقابل، وبالنسبة إلى الموقف الفلسطيني الراغب بالمُواجهة أيضًا، فهو ينطلق من المُعطيات التالية:
أوّلاً: يرغب الجانب الفلسطيني بإعادة إحياء القضيّة الفلسطينيّة لدى المُجتمع العالمي ككلّ، وبإعادة النظر في عمليّات التطبيع العربي-الإسرائيلي الجارية على قدم وساق. والهدف دفع بعض القوى إلى إعادة حسابتها، وإستدراج تدخّلات أجنبيّة تفكّ الحِصار المَفروض على الفلسطينيّين.
ثانيًا: يرغب الجانب الفلسطيني الذي إستفاد في المرحلة الماضية من دعم إضافي بالسلاح النوعي، بإثبات قُدرته على إيذاء الجيش الإسرائيلي والإسرائيليّين عُمومًا، في مُحاولة منه لإيجاد ردع مُتبادل على غرار الردع المَوجود على الجبهة اللبنانيّة منذ "حرب تمّوز" 2006. والمُواجهة الحالية هي فرصة لإظهار نُموّ القدرات العسكريّة للفصائل الفلسطينيّة المُقاتلة، ولإعادة رفع مَعنويّات الشعب الفلسطيني، مع ذهاب البعض بعيدًا في الحديث عن إحتمال تفجّر إنتفاضة فلسطينيّة ثالثة.
ثالثًا: يرغب الجانب الفلسطيني المُتمثّل بفصائل المُقاومة المُتشدّدة، بإعادة تثبيت علاقاته مع إيران، ومع دول "محور المُقاومة والمُمانعة" ككلّ، بعد المشاكل التي شابتها في أولى سنوات الحرب في سوريا. وبطبيعة الحال، إنّ المُواجهة العسكريّة تُعيد تعزيز هذه العلاقات، وتفتح له باب المُساعدات بالسلاح النوعي والذخائر وبكل أنواع الدعم اللوجستي والمالي المَطلوب.
وسط هذه الأجواء، وفي ظلّ التقارير التي تحدّثت منذ أيّام عدّة عن مُناورات إسرائيليّة على الحُدود الجنوبيّة مع لبنان، وعن إستنفارات واسعة لمُقاتلي "حزب الله" من الجهة المُقابلة، يُوجد تخوّف من أن يُسفر توسّع عمليّات القتال بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين-في حال عدم نجاح الإتصالات القائمة حاليًا للجم التوتّر قبل تفاقمه، إلى إنتقال المُواجهات إلى جبهات أخرى، ومنها جبهة لبنان. فهل هذا مُحتمل؟.
بحسب المُعطيات المُتوفّر حتى اللحظة، لا يُوجد أيّ قرار بإطلاق أيّ عمليّات عسكريّة بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله"، لكنّ مُستوى التوتّر مُرتفع، والأمور مَنوطة بمدى تطوّر المُواجهة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. وكلّ من الإسرائيليّين و"الحزب" أخذوا سلسلة من التدابير الإحتياطيّة المُتقابلة، ورفعوا درجة التأهّب لمُواكبة التطوّرات، لكنّ الجميع يُدرك أنّ إنفجار الوضع الأمني على الجبهة الجنوبيّة يختلف عن إنفجار الوضع الأمني في غزّة، لأنّ المُواجهة هذه المرّة ستكون شاملة وضارية، وستدخل فيها فصائل مُقاتلة إنطلاقًا من سوريا وربما من اليمن والعراق. وبالتالي، يُمكن القول إنّ "توازن الرعب" هو الذي يُثبّت الجبهة الجنوبيّة، من دون أن ننسى المشاكل الداخليّة التي يُواجهها لبنان والتي لا تتحمّل أي معركة عسكريّة شبيهة بما حصل في عدوان "تموز" 2006، في حين أنّ الجانب الإسرائيلي لا يريد فتح المزيد من الأبواب المُغلقة عليه، وهو الذي يجد صُعوبة في إغلاق الباب الذي فُتح عليه في غزّة!.
في الخُلاصة، ستُحاول إسرائيل في معركة غزّة الجديدة إثبات تفوّقها العسكري، في حين سيُحاول الفلسطينيّون تثبيت حقّهم بالوجود ورفع قُدرتهم على الردّ على الإعتداءات الإسرائيليّة. أمّا لبنان فهو مَعفي حتى إشعار آخر من هذه المُواجهة، إلى أنّ يأتي "الضوء الأخضر" الإيراني بشأنها، يومًا ما في المُستقبل!.
ناجي س. البستاني
(1) ما يجري كان بدأ بتوتّرات في القُدس الشرقيّة على خلفيّة مشروع قانون إسرائيلي ينصّ على ترحيل أسر فلسطينيّة من منازلها في حيّ الشيخ جرّاح.