لم يسبق أن عاشت إسرائيل قلقاً وجودياً كما تشعر به حالياً. هناك تفوّق عسكري إسرائيلي على الفلسطينيين، تستطيع من خلاله تل أبيب تأمين عناصر نجاح أي عملية جوّية أو برّية أو بحرية بحق قطاع غزة أو أي منطقة فلسطينية أخرى. لكن لا تُقاس الإنتصارات عبر المقاييس العسكرية الصرفة في حروب كتلك الحاصلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض واحدة.
يُقال إن الولايات المتحدة الأميركية أعطت الحكومة الإسرائيلية فترة زمنية محدّدة لإعادة هيبة تل أبيب التي فقدتها أمام إنتفاضة المقدسيين أولاً، ثم الصواريخ الفلسطينية بعيدة المدى التي وصلت لأهدافها ثانياً. لن يبقى الضوء الأميركي الاخضر في تل ابيب كثيراً، مما يوحي أن أي هجمات إسرائيلية سوف تكون سريعة، يتبعها البحث عن مخارج. إذا صمد الفلسطينيون وحققوا مزيداً من الأهداف، ستفقد تل أبيب أهم ركائز قوتها، ليبدأ فتح صفحة جديدة قد تؤدي إلى التوجه نحو "حل الدولتين".
قد يكون الكلام عن مسارات الخروج نحو التسويات سابقاً لأوانه، لأن الحراك المقدسي الفلسطيني الشعبي فاجأ الاسرائيليين والعواصم الإقليمية والدولية: فلتعترف تل أبيب ان الديمغرافيا الفلسطينية تهزم مشروع إحتلالها تدريجياً. كما أن الأجيال الفلسطينية الصاعدة لم تتنازل عن قضيتها المركزية، وهو يُحبط خطط الإسرائيليين. من هنا جاء التكامل بين الانتفاضة الشعبية الفلسطينية والعملية العسكرية التي تخوضها الفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل. علماً أن هناك من يرى بأن الانتفاضة الشعبية داخل القدس وصولاً إلى "أراضي48" هي أشد فاعلية في المعركة الفلسطينية ضد الإسرائيليين، وأكثر فاعلية من صورايخ غزة. لكن التجربة التاريخية مع إسرائيل تؤكد أن توحيد الجهود والتكامل الفلسطيني العسكري والسياسي والشعبي هو القوّة الصلبة في وجه المشاريع الإسرائيلية.
بجميع الاحوال، فإنّ المواجهات الجارية أثبتت أن الفلسطينيين ليسوا عاجزين، ولا الإسرائيليين قادرين على حسم أي معركة ضد الفلسطينيين. يقول في هذا السياق البروفسور العربي عماد شعيبي أن المواجهات كشفت عن مجموعة عوامل جديدة: أولاً، دخول فلسطينيي 48 على معادلة الصراع، مما يعني أمرين على الأقل: الأول هو أن موضوع القدس غير قابل للتمرير بمعادلة ميزان القوى الستاتيكي الذي سوّل للبعض توهم تمرير صفقة القرن بدون القدس.
الثاني أن واقع إسرائيل -بمقولات قادتها أنفسهم- في خطر داخلي، ما سيستوجب إعادة التفكير بوضعها في الداخل الاسرائيلي فور انتهاء العمليات العسكرية، وسنرى كيف ستنطلق دعوات بائسة للترانسفير. وما لم تكن هنالك "نظرية" صحيحة للتعامل مع هذا الأمر وبعقل "من خارج صندوق ما اعتادوا عليه"، فإن الوقائع ستنفجر مراراً وتكراراً حتى غَلبة العقل العقلاني-الواقعيّ.
ثانياً، انّ نظرية الأمن السابقة التي تقوم على حماية الجغرافيا، ونقل أي حرب إلى مساحات جغرافية لأراضي الأعداء، قد سقطت؛ لأن حرب الصواريخ الفعّالة وحتى غير الدقيقة تُغيّر معادلة الجغرافيا. إذاً السؤال الآن أصبح وجوديّاً وهو: ما العمل؟ وسيكون مصحوباً بسؤال استراتيجي وهو: ما الحلّ. بدون حلّ لا يوجد عمل.
لذا، فإن الإسرائيليين دخلوا في مرحلة خطيرة تتعلق بوجودهم، بعدما لعبوا بساحات الإقليم طويلاً وتفرجوا عليها، بعد أن أشعلوا ساحات وعواصم. لن يستطيعوا عرقلة أية توجهات أميركية تسووية، كما الحال بين طهران وواشنطن. ولا الاستثمار على تطبيع دول عربية معهم. فلننتظر.