في الوقت الذي تُطالب فيه أكثر من جهة بمُحاكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة(1) يُواصل الحاكم إصدار القرارات والتعاميم التي ترمي-برأيه، إلى إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، مُستفيدًا من غياب السُلطة المَعنيّة عن مشهد الإنهيار، وإعتكافها عن إتخاذ أيّ قرارات تنفيذيّة تُوحي بالثقة. وجديد هذه القرارات والتعاميم، إطلاق "المنصّة الإلكترونيّة" التي تهدف نظريًا إلى خفض سعر صرف الدولار وسحبه من إحتكار الصرّافين، والتفاوض مع المصارف للتوافق على آليّة يتمّ بموجبها إعادة جزء من أموال المُودعين بأي عملة كانت بشكل تدريجي. فهل نحن نتحدّث عن إجراءات حقيقيّة ستُعطي نتائجها في القريب العاجل، أم عن أوهام هي بمثابة تخدير جديد للرأي العام؟.
بالنسبة إلى مسألة "المنصّة الإلكترونيّة" لتحديد سعر صرف الدولار ولبيعه من قبل المصارف، فقد تأخّر موعد إطلاقها منذ أكثر من شهر، بسبب إعتراض بعض الجهات ومنها المصارف التجارية الكبرى، على مصادر تمويلها، وفي ظلّ تشكيك أكثر من جهة بمدى نجاحها في خفض سعر الصرف المُحدّد في "السوق السوداء" من قبل الصيارفة، الشرعيّين منهم وغير الشرعيّين أيضًا! وحتى في حال نجاح إطلاقها، والتمكّن من تأمين مصادر تمويلها، يعتقد خبراء في علم المال، أنّها لن تُخفّض سعر صرف الدولار، بل ستُوجد سعرًا مُوازيًا جديدًا لسعر السوق، خاصة وأنّ هذه المنصّة تستهدف التُجار وليس العُملاء العاديّين.
بالنسبة إلى مسألة إعادة جزء من الأموال في المصارف بمُختلف العُملات إلى المُودعين، فقد ربط حاكم مصرف لبنان دفع الدولارات للمُودعين بشرط الحُصول على التغطية القانونيّة، علمًا أنّ التفاوض مَفتوح مع المصارف لتأمين كميّات كافية من الدولارات تتيح للمصارف دفع جزء يسير من أموال المودعين، على أن تتمّ هذه العمليّة بالتقسيط، وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة، إعتبارًا من مطلع تمّوز المُقبل في حال جرى حلّ كل العقبات أمامها. إشارة إلى أنّ مصرف لبنان طلب من المصارف تزويده ضُمن مهلة أقصاها 17 أيّار (أي تنتهي الإثنين) بشرائح الودائع وأرصدة الودائع بالليرة اللبنانيّة وتلك بالعملات الأجنبيّة، كما كانت قائمة قبل 17 تشرين الأوّل 2019، وكما أصبحت في 31 آذار 2021، وذلك بالعملات كافة (مع إستثناء الحسابات الجديدة). تذكير أنّه في نهاية العام 2019، كانت نسبة الحسابات التي تقلّ قيمتها عن مليون دولار تبلغ 99% من إجمالي الحسابات (نحو مليونين وثلاثة أرباع مليون حساب)، في مقابل 1% للحسابات التي تتراوح قيمتها بين مليون ومئة مليون دولار (نحو 22 ألف حساب). واللافت أنّ الحسابات التي كانت في حينه تقلّ قيمتها عن خمسة ملايين ليرة أو ما يوازي 3317 دولارًا كانت بحدود نحو مليون وثلاثة أرباع مليون حسابًا، الأمر الذي سمح بتسديدها لأصحابها. واليوم، تجري مُحاولة جديدة لإستهداف أصحاب الودائع الصغيرة، عبر تسديدها بالتقسيط على مدى ثلاث سنوات، على أن يتمّ في الأسابيع المُقبلة تحديد قيمة الدُفعات الأسبوعيّة والشهريّة، تبعًا لقدرة كل مصرف ولقيمة كل حساب، علمًا أنّ الخلافات بشأن مصادر التمويل لا تزال هي الطاغية حتى اللحظة!.
وبغض النظرّ عن النيّات، المُعضلة الأساس تتمثّل في أنّ مصرف لبنان يُطالب السُلطة السياسيّة بقوانين تُجيز له الصرف من "الأموال الإحتياطيّة"، لتغطية العديد من السُلفات بصورة مُستعجلة، وهذا لم يحصل بعد، ما يعني أنّ الإنتظار هو سيّد الموقف حاليًا. أكثر من ذلك، إنّ حاكم مصرف لبنان الذي ينطلق ممّا يعتبره نجاح التعميم رقم 154(2)، يُواجه من قبل الرافضين لقراراته وتعاميمه، والمُشكّكين بها، بأنّ الكثير من المصارف فشلت في تطبيق التعميم رقم 154، وتلك التي نجحت لن تستخدم هذه الأموال لدفعها للمُودعين، وإلا لكانت دفعتها لهم بشكل مُباشر من لبنان، دون الحاجة للمُرور بالمصارف المُراسلة، ما يعني العودة إلى البدء، أي العودة إلى مُعضلة من أيّ أموال سيتمّ التسديد؟!.
أكثر من ذلك، إنّ مطلب إستعادة الأموال المُحوّلة إلى الخارج فشل بسبب إعتماده على الحثّ والتشجيع، وليس على الفرض والإلزام، علمًا أن لا قانون في لبنان يُلزم المُودع بعدم تحويل أمواله إلى الخارج. وهذا حق قانوني له، لكن المُشكلة تمثّلت بالسماح لبعض المُودعين النافذين بتحويل أموالهم إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019، في الوقت الذي كانت الأغلبيّة الساحقة من المُودعين محرومة من سحب مئة دولار من أموالها داخل لبنان! ولا يزال قانون "الكابيتول كونترول" غير مُقرّ حتى تاريخه، على الرغم من خُضوعه للدرس والتحميص مُطولاً في لجنة المال والموازنة برئاسة النائب إبراهيم كنعان.
وفي السياق عينه، إنّ ترشيد الدعم، وتمويل البطاقة التمويليّة، ومدّ المصارف بالدولارات من قبل مصرف لبنان، إلخ. بحاجة إلى قانون يُجيز المسّ بالإحتياطي الإلزامي الذي تراجع أخيرًا إلى حُدود 15 مليار ونيّف، حيث لم يعد يستطيع المصرف التصرّف بأكثر من 800 مليون دولار منه كأقصى حدّ، خاصة وأنّ المساعدات المالية الخارجيّة، وقروض البنك الدَولي، ما زالت كلّها مُعلّقة!.
في الخُلاصة، وبغضّ النظر عن الإتهامات المُتبادلة وعن إلقاء مسؤوليّة الإنهيار يمينًا ويسارًا، يتمسّك الكثير من اللبنانيّين بأيّ بارقة أمل، يُمكن أن تُوقف الإنهيار وتُخرجهم من النفق الحالي، ويمكن أن تضع خُطّة واضحة لإعادة أموالهم، على أن تأتي مرحلة كشف الحقائق والمُحاسبة في مرحلة لاحقة. لكنّ خيبات الأمل السابقة في ظلّ غياب الشفافيّة والمُصارحة، دفعت اللبنانيّين إلى التمسّكبالمثل القائل "ما تقول فول... غير ما يصير بالمكيول"، بحرفيّته!.
(1) بتهم هدر عشرات المليارات وإعتماد هندسات ماليّة فاشلة وتغطية طبقة سياسية فاسدة، إلخ.
(2) كان قضى بزيادة رساميل المصارف وتكوين نسبة 3% من الودائع في حساباتها الخارجية لدى مصارف المُراسلة.