مع أنّ المحرّكات الحكوميّة مُطفَأة عمليًا منذ ما قبل عيد الفطر، وتحديدًا منذ زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، التي أعادت "خلط" كلّ الأوراق بعد "تبشيرها" بانتهاء "مخدوميّة" المبادرة الفرنسيّة، تضجّ الكواليس السياسيّة منذ أيام بمعلوماتٍ عن "أفكار" تختمر، وقد تكون "مفتاح الحلّ" الفعليّ للأزمة.
من هذه الأفكار، وربما أكثرها رواجًا، التوافق على مرشح "وسطي" لرئاسة الحكومة، بدلاً من رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، وبرضاه ومباركته، ولو أنّ مقرّبين منه ومحسوبين عليه يتعمّدون في الأيام الأخيرة تسريب معلوماتٍ بالجملة عن "صرفه النظر" عن فكرة الاعتذار، التي روّج لها بنفسه قبيل زيارة لودريان.
ولعلّ ما يعزّز من "جدّية" هذه الأفكار أنّ بعض الأسماء طُرِحت بالفعل، وبينها رئيسي الحكومة السابقين تمام سلام ونجيب ميقاتي، مع "أرجحيّة" تُعطى للأخير، استنادًا إلى بعض التسريبات التي تشير إلى أنّ الأميركيّين دخلوا على خط "تزكيته" خلال زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل الأخيرة إلى لبنان.
ويوحي تسريب هذين الاسمين بالتحديد، وهما اللذان كانا إلى جانب الحريري طيلة الفترة الماضية، بأنّ الأخير قد يكون راضيًا عن "التسوية" على اسمٍ منهما، فيكون اعتذاره جزءًا من "الإخراج" المطلوب لإنضاجها، فما مدى دقّة مثل هذه المقاربة؟ وهل يقبل بها الحريري أساسًا؟
الحريري "في وارد" الاعتذار؟
في المبدأ، قد لا يكون خافيًا على أحد أنّ الأجواء العامة توحي أنّ الحريري لم يعد "في وارد" الاعتذار، ولو أنّ المقرّبين منه والمحسوبين عليه يؤكدون أنّ الفكرة بحدّ ذاتها لا تزال مطروحة على الطاولة، وأنها جزء من الخيارات التي يدرسها في هذه المرحلة، لاعتقاده بأنّ الاستمرار في المراوحة لم يعد يجدي نفعًا.
لكن، في المقابل، ثمّة من يبدو "مقتنعًا" بأنّ الحريري صرف النظر عن الفكرة لعدّة أسباب واعتبارات، لكنّ أهمّها أنّه أدرك رفض "بيئته الحاضنة"، أو بشكل أكثر تحديدًا، "قاعدته الشعبية" للاعتذار شكلاً ومضمونًا، بعدما رسّخ "الكباش" بينه وبين فريق "العهد" طيلة الفترة الماضية، والذي تجاوز الخطوط الحمر في بعض جوانبه، انطباعًا بأنّ اعتذاره قد لا يكون سوى "انكسار"، وبالتالي "انتصار" لخصومه.
أكثر من ذلك، ثمّة من يكاد يجزم أنّ الفكرة، التي تعمدّ فريق الحريري نفسه الترويج لها عشية زيارة وزير الخارجية الفرنسي، لم تكن أكثر من "مناورة" أريد منها "ابتزاز" لودريان، لا أكثر ولا أقلّ، وقد انتفى "الغرض" منها بمجرّد انتهاء الزيارة، وحصول الحريري على ما يريده منها، من خلال اللقاء الذي جمعه مع لودريان، ولو أنّ كلّ التسريبات غلّفته بـ"السلبيّة"، في الشكل كما في المضمون.
ومع أنّ هناك من يجزم بأنّ الحريري وصل إلى "قناعة" بأنّه "مكبَّل"، وأنّه لن يستطيع "التأليف"، بغياب المقوّمات البديهيّة لذلك، سواء في الداخل، مع تعنّت فريق "العهد"، أو في الخارج، مع ما يشبه "الفيتو" المفروض عليه سعوديًا، يشير العارفون إلى أنّ "الشيخ سعد" قد يفضّل البقاء "رئيسًا مكلَّفًا"، مع وقف التنفيذ، على "تسليم الراية"، والسماح لقوى الأكثرية بالاستئثار بالحكم مرّة أخرى، وبالتالي "استنساخ" تجربة حسّان دياب.
"اعتذار" ضمن "سلّة متكاملة"
لعلّ ما يعزّز "منطق" الحريري برفض الاعتذار، أو بالحدّ الأدنى "تأجيله" ريثما تتّضح السيناريوهات وتتبلور "خريطة طريق" المرحلة المقبلة، يتمثل بما يعتقد أنّه "احتضان واسع" له من الحلفاء والأصدقاء وحتى بعض الخصوم، مع تمسّك الثنائي الشيعي المُطلَق به، معطوفًا على رؤساء الحكومات السابقين، فضلاً عن رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط ورئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية.
وإذا كان هذا "الالتفاف" حول الحريري يعكس في جانبٍ من الجوانب "استحالة" الانقلاب عليه، عبر تزكية غيره، فإنّ هناك من يعتقد أنّ الأمر لا يكفي، طالما أنّ الحريري ينتهج سياسة "القطيعة" مع "التيار الوطني الحر"، وبالتالي رئيس الجمهورية، الذي لو بقي وحده في مواجهته، لا يمكنه تأليف أيّ حكومة، استنادًا إلى أنّ توقيع الأخير على مراسيم التشكيل "ملزم"، ومن دونه لا حكومة ولا من يحزنون.
ولأنّ "المساكنة" بين الرجلين تبدو أقرب إلى "الحلم المستحيل" بالنسبة إلى كثيرين، بعد الدرك الذي وصلت إليه العلاقة بينهما، بدأ الحديث عن "أسماء بديلة" يمكن التوافق عليها مع الحريري، بحيث يصبح "اعتذاره" مشروعًا، في سياق "سلّة متكاملة" للحلّ، فلا يظهر على أنّه "انكسار" أمام جمهوره، ولا يبدو "انتصارًا" لفريق "العهد"، خصوصًا إذا ما كان "البديل" من المرضيّ عنهم "حريريًا"، إن جاز التعبير.
أما النقطة الأهم، التي قد تدفع الحريري للموافقة على مثل هذه "التسوية"، ولو "على مضض"، فيتمثّل بما يُسرَّب عن أنّ هذا "السيناريو" حصل سلفًا على "مباركة" الخارج، وهو ما يفسّر ربما "الحذر" الفرنسيّ إزاءه، وبالتالي فإنّ موافقته عليه قد تكون "تحصيلاً حاصلاً" إذا ما أراد الحريري "تصحيح" علاقته بالمملكة العربية السعودية، التي بات واضحًا أنّها ليست على ما يرام، مهما كابر وقال العكس.
"سيناريوهات مفتوحة"
يبقى كلّ ما سبق مجرّد "كلام بكلام" حتى إثبات العكس، فمع أنّه لم يعد يدور في الهمس، وبدأ النقاش يتمّ به علنًا في الصالونات السياسيّة، فإنّ أحدًا لا يمكنه أن يعتبره "حقيقيًا"، قبل أن تنضج الوساطات فعليًا، لا افتراضيًا.
لذلك، يعتقد كثيرون أنّ السيناريوهات الحكوميّة تبقى مفتوحة، ومعها تصبح كلّ الاحتمالات "مشروعة"، بما فيها الذهاب إلى "تسوية" على هوية "خلف" الحريري، أو الإبقاء على المراوحة القاتلة، أو الذهاب إلى "اعتذار" من دون تفاهم.
وقد يكون الخيار الثالث هو الأخطر من كلّ ما سبق، لأنّ اعتذارًا من دون اتفاق على "التبعات" قد لا يؤدّي سوى لتعقيد الأزمة أكثر، فلا تجربة الحكومة السابقة تبدو مشجّعة، ولا فكرة "الانقلاب" عبر الاستقالة الجماعيّة تبعث على التفاؤل.
بمُعزَلٍ عن كلّ شيء، فإنّ المطلوب إحداث خرقٍ ما، مهما كان، لأنّ الاستحقاقات أكثر من داهمة، وأولها "الانفجار الاجتماعي" القادم، والذي لا قدرة لحكومة تصريف أعمال على تحمّل تبعاته، التي قد تفوق كلّ التصوّرات...