مع بدء التصعيد في غزة، على وقع الغارات الإسرائيلية المكثّفة والمروّعة التي لم توفّر المدنيّين، وتصدّي الفلسطينيين لها برشقات صاروخية متلاحقة، تكاد تكون وتيرتها الأعلى في تاريخ الصراع، تسارعت التكهّنات في لبنان حول "محلّ" البلد الواقع على كفّ عفريت من المعادلة، وسط مخاوف متكرّرة من "انخراطه" في المواجهة الشاملة، بشكلٍ أو بآخر.
وتعزّزت هذه الهواجس مع تطورين شهدتهما عطلة نهاية الأسبوع، معطوفةً على إجازة عيد الفطر، أولهما تمثّل في "حدث" إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي المحتلّة، فيما تمثّل الثاني بحلقات "التضامن" الذي شهدته الحدود الجنوبيّة، والتي جعلت لبنان "شريكًا" في فاتورة الدم، بعدما سقط له شهيد بنيران إسرائيلية.
ومع أنّ "حزب الله"، وهو المعنيّ الأول، التزم بالصمت، من دون أن يبدر عنه ما يتجاوز معاني "التضامن المعنويّ"، بل إنّ أوساطه لم تتأخر في إعلان "براءته" من الصواريخ "اللقيطة"، إلا أنّ علامات استفهام بالجملة طُرِحت، فهل "تشتعل" جبهة الجنوب توازيًا مع جبهة غزة؟ وأليس "حزب الله" القائل بأنّ الحرب المقبلة مع إسرائيل ستكون "مفتوحة الجبهات"؟
التصعيد "منبوذ" من الجميع؟
لا يخفى على أحد أنّ موجات التضامن التي شهدتها الحدود الجنوبية، إضافة إلى حادثة إطلاق ثلاثة صواريخ من جنوب لبنان، أثارت "نقزة" لدى البعض من إمكانية وجود نيّة لـ"جرّ" لبنان إلى صلب "المعركة" التي قد يرى البعض فيها "طوق نجاة"، في ظلّ الجمود السياسيّ الذي تشهده البلاد منذ أشهر، والذي يبدو أفقه مفتوحًا على المجهول، حتى إثبات العكس.
إلا أنّ مؤشّرات عدّة "دحضت" هذه الفرضية، لعلّ أبرزها تمثّل في طريقة التعامل مع أحداث الجنوب، حيث بيّنت أنّ أيًا من اللاعبين المعنيّين لا يريد التصعيد، وهو ما تجلّى في تعامل الإسرائيليين بعدم "اكتراث" مع إطلاق الصواريخ من الأرض اللبنانيّة، حتى أنّ عبارات "الوعيد" المعتادة في مثل هذه الحالات للحزب ومن خلفه للحكومة التي تغطّيه، غابت عن المشهد، في واقعة فُسّرت "تحييدًا" لـ"حزب الله" بصورة أو بأخرى.
ويعزو البعض ذلك إلى إدراك إسرائيل أنّ الحزب ليس المسؤول عن إطلاق الصواريخ، خصوصًا بالطريقة "الهاوية" وغير الاحترافية التي طبعته، فيما يرى آخرون أنّ إسرائيل "تتجنّب" فتح "جبهة" أخرى، بخلاف "تكتيكات" سابقة لها في حروبٍ أخرى، خصوصًا بعدما بدت "جبهة" غزة كافية ووافية، ونجحت خلال أسبوع في توجيه العديد من الضربات "الموجِعة نسبيًا" لها، ولا سيما مع تعطيل حركة الملاحة الجوية والبحرية خوفًا من الصواريخ.
وعلى المقلب الآخر، أوحت التطورات بأنّ "حزب الله" أيضًا لا يسعى إلى التصعيد، بعيدًا عن مقتضيات التضامن والتعاطف الوجداني مع أصحاب "القضية المركزيّة"، حتى أنّ البعض توقّف عند "مفارقة" ما وُصِف بالتعامل "العقلانيّ" مع حادثة استشهاد أحد اللبنانيين على الحدود، والذي نعاه "الحزب" وشيّعه، من دون افتعال أيّ ضجّة مبالَغٍ بها، من شأنها أن تقود إلى أيّ تصعيدٍ في الموقف، قد يرقى لمستوى لمواجهة العسكريّة.
معركة "مضبوطة"
صحيح أنّ "حزب الله" كان قد أعلن مرارًا وتكرارًا على لسان أبرز قياديّيه، وعلى رأسهم أمينه العام السيد حسن نصر الله أنّ الحرب المقبلة مع إسرائيل لن تقتصر على "جبهة واحدة"، ما يعني فتح كلّ "الجبهات دفعة واحدة"، متناغمًا بذلك مع التهديد الإيراني المتكرّر بأنّ عنوان "المعركة" المقبلة سيكون "زوال إسرائيل" عن الخريطة.
لكنّ الصحيح أيضًا، بحسب ما يقول بعض المقرّبين من الحزب والعارفين بأدبيّاته، أنّ معركة غزة اليوم، على أهميتها وحساسيّتها، لا تزال "مضبوطة" إلى حدّ بعيد، وهي لا تُصنَّف، على الأقلّ حتى الآن، وبالمفهوم العسكريّ، حربًا شاملة وكبرى، كتلك التي يستعدّ محور الممانعة منذ سنوات، ويعدّ لها العدّة عتادًا وعديدًا في آنٍ واحد.
ويستند هؤلاء إلى عاملين أساسيَّين، أولهما أنّ حركة حماس وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية تلعب دورها على أكمل وجه، وهي ليست بحاجة لأيّ دعمٍ في الوقت الراهن، وثانيهما أنّ الأمور لم تنضج حتى الساعة، وإن كان الميْل أكبر نحو مواجهة "محدودة" لا "طويلة المدى"، علمًا أنّ ثمّة داخل إسرائيل من بدأ يرفع السقف رفضًا لصراعٍ ليس في صالح إسرائيل، وهو ما أدّى إلى "دفن" خيار الدخول البرّي مثلاً في مهده، وبمجرّد التلويح به.
لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك، وفق ما يؤكد العارفون، أنّ الظروف اللبنانيّة اليوم هي "الحاكِمة"، وهي لا تتيح لـ"حزب الله" التصرف بأريحيّة، والذهاب إلى أيّ تصعيد، فضلاً عن كونها لا تشبه حتى ظروف 2006، فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية تعلو ولا يُعلى عليها، في وقتٍ يعاني البلد من غياب حكومة "أصيلة" تستطيع أن تمنح "الحزب" الغطاء الذي يتطلبه الانخراط في أيّ عمل عسكري، وتعطيه بالتالي "الحصانة" المطلوبة وطنيًا وشعبيًا وسياسيًا.
"الجبهة" لن تشتعل
رغم أنّ "الصراع" مع إسرائيل يشكّل عنوانًا "جامِعًا" للكثير من اللبنانيّين، وعنوانًا أكثر من "وجدانيّ" لجمهور "حزب الله" تحديدًا، إلا أنّ الواقع الحاليّ يؤكد أنّ ظروف اليوم لا تميل نحو "مباركة" مثل هذه المواجهة.
يصحّ ذلك شعبيًا، حيث باتت هموم وشجون الناس أبعد ما تكون عن واقع "الحرب"، في ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة، والانفجار الاجتماعي القادم، وعدم قدرة الناس، من بيئة الحزب الحاضنة وخارجها، على تحمّل المزيد.
ويصحّ ذلك سياسيًا، ليس فقط لناحية افتقاد الحزب لدعم الحلفاء المفترض، وعلى رأسهم فريق "العهد" لأيّ عملية عسكرية، ولكن لغياب "المصلحة" لها، في مرحلة "الانتظار" التي تعيشها المنطقة، بانتظار نضوج جو التفاهمات الإيرانية الأميركية، ومن خلفها الإيرانية السعودية.
لكلّ هذه الأسباب، لا يُعتقَد أنّ "الجبهة الجنوبية" على وشك الاشتعال في المدى المنظور، أقلّه من الجانب اللبنانيّ، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ التضامن مع الفلسطينيين سيبقى في موضعه الرمزيّ والمعنويّ، لا أكثر ولا أقلّ، حتى إشعارٍ آخر قد يحكمه مسار تطور الأحداث في القادم من الأيام.