تزامنت ذكرى نكبة فلسطين هذا العام مع تحوّلات هامة أحدثها اشتعال انتفاضة فلسطينية شاملة كلّ أنحاء أرض فلسطين المحتلة، من أقصاها إلى أقصاها، مسنودة بمقاومة فلسطينية حولت قطاع غزة إلى قاعدة وقوة متعاظمة للمقاومة المسلحة والشعبية، تؤذن بتكريس وتعزيز معادلات قوة الردع في مواجهة العدو الصهيوني، وإدخال المشروع الصهيوني في مرحلة جديدة من التراجع سمتها:
أولاً، إظهار عجز الاحتلال وعدم قدرته على تحقيق أهدافه لفرض مخططه لشطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وتصفية قضيته، بوساطة قوّته العسكرية المدمّرة وآلته القمعية الإرهابية، وبالتالي فشله في محاولته تكرار النكبة الفلسطينية مرة جديدة…
ثانياً، تكريس وحدة المصير الفلسطيني، أرضاً وشعباً… فالانتفاضة التي بدأت شرارتها من قلب القدس المحتلة ضدّ مخططات الاستيطان وطرد العائلات المقدسية من منازلها في حي الشيخ جراح، سرعان ما اتسعت لتشمل الأراضي المحتلة عامي 1948، و1967، ومسارعة المقاومة في قطاع غزة إلى ملاقاة الانتفاضة بتأكيد وحدة مصير الشعب الفلسطيني، من خلال العمل على فرض معادلة جديدة «المقاومة درع القدس» تقضي بحماية عروبة القدس والمقدسيين ومنع استفرادهم واقتلاعهم من منازلهم، وذلك عبر اتخاذ القرار الجريء بالمبادرة إلى قصف أحياء القدس الغربية المحتلة بالصواريخ لفرض هذه المعادلة، وهو الأمر الذي فاجأ المسؤولين الصهاينة ودفعهم إلى شنّ عدوان وحشي ضد قطاع غزة وارتكاب المجازر ضد المدنيين في محاولة لتأليب الناس ضدّ المقاومة ووقف انطلاق الصواريخ، وفرض الشروط الصهيونية لوقف النار، وبالتالي منع المقاومة من تكريس معادلة ردعية جديدة تزيد من تآكل قوة الردع الصهيونية، وتدخل المشروع الصهيوني في طور جديد من الهزيمة والانكفاء…
ثالثاً، ردّ المقاومة القوي والصاعق على قصف العدو الوحشي للأبنية السكنية في غزة، بقصف تل أبيب وغوش دان وكلّ المدن والمستوطنات في جنوب فلسطين المحتلة واستهداف مواقع استراتيجية حساسة مثل منصات الغاز والمطارات الحربية، وغيرها، وإجبار أكثر من خمسة ملايين مستوطن على ملازمة الملاجئ، وشل حركة الاقتصاد والمطارات المدنية والنقل، مما يكبّد كيان العدو خسائر اقتصادية كبيرة مع كلّ يوم يستمرّ فيه في عدوانه، الى جانب إفقاد كيان الاحتلال الأمن والاستقرار.. في ظلّ نجاح المقاومة في الكشف كلّ يوم عن مفاجأة جديدة في مواجهة العدو.. الأمر الذي أربك جيش الاحتلال، بما يذكر بمفآجات المقاومة في لبنان خلال حرب تموز..
رابعاً، كشف عجز وفشل منظومة القبة الحديدية، التي كان يتغنّى بها القادة الصهاينة بزعم قدرتها على إسقاط صواريخ المقاومة ومنع بلوغها أهدافها.. وهو الأمر الذي فاجأ قادة الاحتلال وأدخلهم في مأزق عدم القدرة على حماية أمن الصهاينة والعجز عن وقف انطلاق صواريخ المقاومة، على الرغم مما يمتلكه جيش الاحتلال من قدرات عسكرية وطيران حربي يُعتبر الأكثر تطوراً في العالم، في مقابل القدرات المتواضعة للمقاومة، في قطاع غزة محاصر، يتميّز بالكثافة السكانية (نحو 2 مليون نسمة)، على مساحة صغيرة منسبطة من الأرض، لا تتجاوز ال 360 كلم٢…
خامساً، تكريس فشل جيش الاحتلال «الإسرائيلي» في وقف تساقط صواريخ المقاومة على تل أبيب ومدن ومستوطنات جنوب فلسطين المحتلة، وعدم قدرة سلطات الاحتلال على احتواء الانتفاضة التي ازدادت اتساعاً بعد انضمام مدن وبلدات الضفة الغربية إليها بقوة مما زاد من استنزاف جيش الاحتلال والشرطة «الإسرائيلية»، وتشتيت قدرات العدو ومنعه من التركيز على جبهة واحدة…
هذه التطورات والتحوّلات في المواجهة على أرض فلسطين المحتلة التي نجحت الانتفاضة والمقاومة في فرضها في مواجهة الاحتلال الصهيوني وعدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني وارضه ومقدساته، بدأت تولد مناخات لمصلحة الانتفاضة والمقاومة، تؤذن بتحقيق انتصار جديد يضاف إلى الانتصارات السابقة ستكون له تداعيات إيجابية بتعزيز إيمان وثقة الشعب الفلسطيني بقدرة انتفاضته ومقاومته على ردع العدوانية والمشاريع الاستيطانية الصهيونية.. وهذه المناخات تتجلى بالتالي:
1 ـ بداية تولد ضغط «إسرائيلي» داخلي على رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو لوقف النار.. تمثل بتظاهرة في تل أبيب دعت لوقف النار، وتصاعد الانتقادات السياسية لـ نتنياهو واتهامه بالمسؤولية عن إدخال «إسرائيل» في مأزق جديد من الفشل، وتآكل قوة الردع الإسرائيلية في مواجهة المقاومة الفلسطينية.. وهذه الانتقادات عبّر عنها أفيغدور ليبرمان، والمعلقون والمحللون الصهاينة والصحافة «الإسرائيلية»، بانّ الغاية من العملية تحسين وضع نتنياهو فقط.. وانّ عملية مهاجمة الأنفاق تمّ التخطيط لها ثلاث سنوات، ولكنها نفذت بعدم كفاءة وتحوّلت لعملية دعائية فقط.
أما حـايـيـم لـيـڤـيـن – عـضـو كـنـيـسـت سـابـق ورئـيـس بـلـديـة إشـكـول فقد قال فـي مـقـابلة مـع الـقـنـاة 13 الإسرائيلية: انه، حان الوقت لتسوية، واتفاق ما مع غزة، وهذا ما يجب أن يكون.. واصفاً ما يحدث بـ «إفلاس نتنياهو وحكومته»، وانه «لا سياسة واضحه لديه، ومنذ 20 عاماً ونحن نعيش هذا الواقع». وقال، «لا نستطيع الآن الحصاد، نحن نعاني من واقع مرير، وأريد أن أذكركم ان 70% من خضرواتنا تنتج في الغلاف». (غلاف غزة).
فيما الصحافي «الإسرائيلي» نداف إيال قال: انّ خطاب بيت العنكبوت الذي ألقاه (السيد) حسن نصر الله قبل سنوات يتجلى على أرض الواقع في هذه الأيام.
أما موقع «والاه» العبري فقد قال بالأمس اثر قصف الطيران «الإسرائيلي» المبنى الذي ضمن مكاتب وسائل إعلام أجنبية وعربية ومحلية، انه، «من الليلة يمكن البدء بالحديث عن نهاية المعركة وانتهاء حيّز المناورة السياسية أمام «إسرائيل» لأنّ قصف البرج الذي تتواجد فيه محطات لقنوات إعلامية يعتبر خطأ كبيراً يضاف إلى الأخطاء بل الخطايا والمجازر التي ارتكبتها «إسرائيل» حينما استهدفت العائلات والأطفال والنساء.
2 ـ تزايد الضغط الدولي لوقف النار، على خلفية امرين أساسيين:
الأمر الأول، تحريك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تحت ضغط غير مسبوق من حزبه الديمقراطي، لإنهاء العملية العسكرية في غزة، كما قالت وسائل إعلام إسرائيلية. وبالتالي العمل على دفع نتنياهو للتهدئة، والامتناع عن اخلاء العائلات الفلسطينية من الشيخ جراح في القدس، باعتباره إجراء غير قانوني، والدفع باتجاه تحريك المفاوضات على أساس حلّ الدولتين، وإعادة إنعاش اللجنة الرباعية الدولية.
الأمر الثاني، اتساع دائرة التضامن والتأييد العربي والإسلامي والدولي، للشعب العربي الفلسطيني ومقاومته وانتفاضته، وإدانة العدوان الصهيوني، وهو ما عكسته التظاهرات الشعبية التي عمّت الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية من ناحية، والتظاهرات في الدول العربية، وإقدام المتظاهرين العرب، اللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين، على اجتياز خط الحدود مع فلسطين المحتلة انطلاقاً من الحدود اللبنانية، والحدود الأردنية.. في تعبير عن دعمهم للانتفاضة والمقاومة الفلسطينية من ناحية ثانية.
3 ـ وصول مراكز أساسية في دوائر صنع القرار «الإسرائيلي» إلى قناعة باستنفاذ العملية «الإسرائيلية» العسكرية قدرتها على تحقيق أهدافها وبالتالي وضع جيش الاحتلال في مواجهة خيار من اثنين:
خيار اول، تنفيذ عملية برية في قطاع غزة تحت عنوان تدمير منصات صواريخ المقاومة، بهدف تحقيق انتصار عسكري وفرض الشروط «الإسرائيلية» لأيّ تهدئة…
وخيار ثان، او التعامل إيجاباً مع مقترحات التهدئة.. لأنّ العملية البرية دونها مخاطر كبيرة قد يتعرّض لها الجيش «الإسرائيلي»، وتؤدّي إلى مواجهته مقاومة شرسة قد تكبّده خسائر كبيرة تفوق تلك التي مُني بها خلال عدوانه عام 2014، وبالتالي فشله في تحقيق إنجاز عسكري، وانعكاس ذلك بمزيد من تراجع هيبة وقدرة الجيش «الإسرائيلي»، وما يعنيه ذلك من تداعيات سلبية على الداخل «الإسرائيلي» بمفاقمة أزمة المشروع الصهيوني.. وعلى الخارج بالمزيد من الضغط الدولي لوقف النار.. أما الاستمرار في قصف غزة فإنه، كما تبيّن، لن يؤدّي الى وقف صواريخ المقاومة وما تحدثه من شلل وخسائر مادية واقتصادية وبشرية في قلب الكيان المحتلّ… لا قدرة له طويلاً على احتماله..
لهذا بدأت التحركات الدبلوماسية المصرية القطرية مع الأمم المتحدة، وبدعم واشنطن لأجل تحقيق هدنة قصيرة لإدخال الوقود إلى غزة، يجري خلالها العمل للتوصل إلى اتفاق على شروط التهدئة الجديدة.
لكن شروط التهدئة الجديدة ستكون انعكاساً لنتائج الميدان، وهي نتائج ليست لمصلحة «إسرائيل» التي فشلت مجدداً في وقف صواريخ المقاومة واحتواء الانتفاضة، وكسب تأييد العالم الي جانب موقفها.. ولهذا فإنّ نتنياهو يحاول معاندة ذلك والاستمرار في عدوانه على غزة، في محاولة يائسة لتحقيق إنجاز يوظفه في معركته الداخلية لحماية مستقبله السياسي.
على أنّ التحوّل الجزئي في الموقف الدولي حيال القضية الفلسطينية، الذي تجسّد في عودة الحديث عن «حل الدولتين» و»القدس الشرقية» كجزء من الدولة الفلسطينية، بديلاً عن «خطة القرن»، ما كان ليحصل لولا نجاح الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية في كسر شوكة وهيبة القوة الصهيونية، وفي فرض القضية في صدارة الاهتمامات العربية والدولية، ما يؤذن بإحداث تحوّلات هامة في الصراع مع الاحتلال لمصلحة القضية الفلسطينية، لا سيما إذا ما تمكنت المقاومة من تحقيق معادلة ردعية جديدة تعزز من ثقة الشعب الفلسطيني بقدرته على فرض إرادته والانتصار لحقه بقوة انتفاضته ومقاومته، بعد ان سقط الرهان على السلام الزائف والخادع مع عدو متغطرس ومتوحش ثبت انه لا يفهم لغة سوى المقاومة الشعبية والمسلحة..