ظنّ نتنياهو أنّ ما فعله ترامب أدّى فعلاً وحقيقة إلى تصفية القضية الفلسطينية وأقام فعلاً «إسرائيل العظمى» التي تقود الشرق الأوسط وتهوّد فلسطين وتلغي حقوق الشعب الفلسطيني صغيرها وكبيرها، كما ظنّ أنّ انشغالات محور المقاومة في الحرب الكونية التي استهدفت قلعته الوسطى سورية ستتيح له الانطلاق طليق اليد في إرساء ما يريد في فلسطين والمنطقة ويقيم الدولة اليهودية الخالصة، ما يجعله أكبر ملوك «إسرائيل» وأطولهم فترة حكم وأشدّهم تأثيراً على تاريخ «إسرائيل» برمّتها.
ولكن ظن نتنياهو كان في مكان وكانت الحقيقة في كان معاكس، فعلى الصعيد «الإسرائيلي» الداخلي لم تستجب صناديق الاقتراع التي استعملت أربع مرات متتالية في سنتين، لم تستجب لأحلامه وفشل نتنياهو المرة تلو المرة في تحصيل الأكثرية المناسبة لتشكيل الحكومة. أما على الصعيد الفلسطيني وهنا كانت الطامة الكبرى بالنسبة له، فقد وقع في سوء تقديره وفعله وافتضح كيانه الواهن إيما فضيحة بعد فتحه معركة تهويد القدس التي ظنّ أنّ ابتلاعها بات سهلاً عليه، فإذا به يختنق بها.
لقد خططت «إسرائيل» ما بعد حرب 1967 لجعل القدس عاصمة للكيان اليهودي المزعوم، واتخذت من الإجراءات الأحادية المنافية لأحكام القانون الدولي العام خاصة قرارات مجلس الأمن، خططت واتخذت من الإجراءات ما يجعل كلّ القدس بكلّ ما فيها بما في ذلك المسجد الأقصى وكلّ المقدسات الإسلامية والمسيحية وكلّ ممتلكات العرب في القدس، ما يجعلها ملكاً للدولة اليهودية ولشعبها المغتصِب. وجاء ترامب في خطته المسماة «صفقة القرن» ليؤكد على ذلك ويدّعي أنّ القدس عاصمة للكيان الغاصب، وبعد ترامب تابع نتنياهو إجراءاته في القدس وهو هذه المرة يريد أن يجعل لها وظيفة إضافية، ففضلاً عما تقدّم، فإنه يريد أن يحوّل الأقصى وأحياء القدس الشرقية ورقة يستعملها في محاولته الاحتفاظ بالسلطة، ولذلك فتح نتنياهو معركة الأقصى والقدس، في الأقصى لاستباحته على مرحلتين يفرض في الأولى التقسيم المكاني والزماني للدخول إلى الأقصى بين المسلمين واليهود، وفي الثانية يضع اليد على كامل المسجد لصالح اليهود وكيانه المزعوم، أما على المقلب الآخر فخطة نتنياهو تمثلت بمصادرة بيوت العرب في القدس وإخراجهم منها بشكل متتابع إلى أن يصل إلى وضع لا يبقى فيه عربي واحد في القدس، ويتمّ بذلك التهويد حكماً وواقعاً.
شرع نتنياهو بالتنفيذ مطمئناً إلى أنّ أحداً لا يستطيع منعه من تنفيذ خطته الإجرامية تلك، لكن المفاجأة الزلزال حدثت بما لم يكن متوقعاً، حيث استلّت المقاومة الفلسطينية بأشكالها كلها المدنية والعسكرية الشعبية والتنظيمية، لا بل الأفضل أن نقول استلّت فلسطين كلها «سيف القدس» لتمنع الجريمة وتحول دون تنفيذ الخطة الخبيثة، فكانت الأيام العشرة الأواخر من رمضان أيام إشراق هبّة القدس للدفاع عن قلب فلسطين، وكانت الأيام الأخيرة من رمضان التي أعقبت «يوم القدس العالمي» (يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان) موعداً لإطلاق معركة سيف القدس على يد المقاومة المسلحة انطلاقاً من غزة، ثم تعاظم الردّ لا بل الردود حتى شملت كلّ فلسطين التاريخية بكلّ عناوينها وتسمياتها بما في ذلك الأرض المحتلة في العام 1948 والضفة الغربية المحتلة في العام 1967 وقطاع غزة المحرر في العام 2005، طبعاً فضلاً عن القدس التي هي بيت القصيد. انفجرت فلسطين التاريخية محدثة بركاناً فلسطينياً يحرق بحممه كلّ أحلام العدو ويرسم معادلات جديدة لم تخطر ببال أحد من الأعداء والخصوم أو من أولئك الذين يسمّون أنفسهم عرباً انقادوا للاستسلام للعدو والإذعان لإرادته تحت مسمّى مزوّر «التطبيع».
ومع هذا الانفجار البركاني الزلزالي ارتسم مشهد جديد للقضية الفلسطينية يعاكس كلّ ما خطط له من قبل الأعداء وعلى الوجه التالي:
1 ـ أعيد الاعتبار إلى العنوان المركزي الذي هو «القضية الفلسطينية» ومسألة فلسطين كلها، والتأكيد على وحدة القضية كلها بما يتصل بها من توصيف سياسي وجغرافي وتاريخي وديمغرافي واستراتيجي، عنوان عاد ليحتلّ الموقع المتقدّم الذي يليق به لا بل الأولوية في كلّ المسائل المطروحة في الشرق الأوسط والعالم. لقد رمت «صفقة القرن» إلى تصفية القضية هذه والتعامل مع متعلقاتها كأوراق متناثرة مشتتة من قبيل القول ورقة لاجئين ورقة غزة ورقة ضفة إلخ… وغيَّبت عنوان الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية، وجاء بركان فلسطين ليقطع الطريق على كلّ تلك المحاولات الخبيثة ويفرض حقيقة لا يمكن لأحد أن يتجاوزها هي قضية فلسطين وشعبها وانتمائها القومي والإقليمي والإنساني.
2 ـ أكد الانفجار الفلسطيني على وحدة الشعب الفلسطيني تلك الوحدة التي أرادوا النيل منها بتعدد العناوين وتوزيع الشعب فئات وشرائح، وكانت المفاجأة لهم أنّ الفلسطيني في فلسطين التاريخية كلها وخارج فلسطين التاريخية في كلّ أنحاء العالم ينطق اللغة ذاتها ويحمل الآمال ذاتها ويعمل من أجل طموحات واحدة هي العودة إلى فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة الواضحة الانتماء قومياً وإقليمياً. وقد كانت المفاجأة الكبرى ما ظهر في الأراضي المحتلة العام 1948 في اللد وأم الفحم والمثلث وسواها، حيث كان الفلسطينيون هناك يجاهرون بمشاعرهم التي لا تقلّ وطنية عن مشاعر أهل غزة أو اللاجئ خارج فلسطين.
3 ـ أرست معركة سيف القدس معادلة دفاعية جديدة على الصعيد الفلسطيني العام مضمونها أن «الكلّ يدافع عن الكلّ، والكلّ يدافع عن الجزء، والجزء يدافع عن الكلّ»، وأجهضت بذلك كل نظريات ومحاولات التجزئة وتشتيت أوراق القضية وباتت القدس محمية ليست بسواعد المقدسيين من داخل القدس فحسب، بل وبقوة الفلسطينيين من خارج القدس كما وخارج فلسطين، وقضى الفلسطينيون بذلك على استراتيجية الاستفراد التي يتمسك العدو بها منذ إنشائه ويطبّقها على كلّ الصعد.
4 ـ دفعت المعركة العدو الإسرائيلي إلى نوع من الهستيريا الميدانية، وجعلته ينفذ عمليات قتل وتدمير إجرامية بدل أن يقوم بعمليات عسكرية ميدانية. وهو يتوخى من إجرامه الضغط على قيادة المقاومة من أجل وقف إطلاق النار من دون تحقيق أهدافها من المعركة، لكنه صدم مرة ثانية أمام عزيمة الفلسطينيين وإرادة الصمود والقتال لديهم واستمرارهم في المواجهة من دون أن تنفع معهم كلّ الضغوط الميدانية والسياسية التي يتعرّضون لها وهم يرفعون شعار لا وقف للمعركة ووقف لإطلاق النار قبل أن تحقق المعركة أهدافها المتمثلة بحماية الأقصى وحماية الوجود العربي والإسلامي في القدس في مقدّساتها وأحيائها.
5 ـ فضحت المواجهة القائمة في فلسطين الآن وهن القبة الفولاذية التي أنفق العدو عليها آلاف الملايين من الدولارات واعتمدها من أجل إرساء مقولة «شعب يعمل تحت النار وهو آمن»، ومن أجل أن يعطل محاولة المقاومة إلهاب مجتمع العدو بالنار، وتبيّن في هذه المعركة أنّ القبة الفولاذية عاجزة عن اعتراض نسبة تتعدّى 35% من الصواريخ الموجهة إلى الكيان في عمقه وأطرافه على حدّ سواء، ما طرح سؤالاً كبيراً لدى قيادة العدو اختصره ليبرمان وزير الحرب الإسرائيلي السابق بالعبارة: «إذا كان وضعنا هكذا مع حماس، فكيف سيكون حالنا مع حزب الله أو إيران؟». ويضيف «إنها مأساه لا بل كارثة قاد نتنياهو إسرائيل اليها». إنّ هاجس مستقبل المواجهة مع كامل محور المقاومة بات يؤرق «إسرائيل» إلى حدود الرعب والذعر العام ما يؤدي إلى القول بأنّ «إسرائيل» باتت تشعر وتسلم بأنها فقدت حتى الآن هيبتها الرادعة، وقدرتها على إسكات مصادر النيران المعادية التي تستهدفها، والأخطر أنها فقدت زمام المبادرة.
6 ـ نجاح المقاومة الاستراتيجي والعملاني على حد سواء. حيث نجحت أولاً في العمل باستراتيجية الاستنزاف والإنهاك الذي يقود إلى تآكل قوة العدو العسكرية والاقتصادية، كما في فضح صورته الإجراميّة أمام العالم. ووضعت مجتمع العدو في حال من الشلل والتعطيل لأيام لا يحتمل أن تطول، كما فرض على العدو استهلاك كمّ كبير من الذخائر يفوق بعشرات المرات ما تستعمله المقاومة. أيّ شلت حركته الاقتصادية وتعطلت الموارد وفتحت على مصراعيها أبواب حاجاته الاستهلاكية وكل ذلك بفضل الفعل المقاوم المتفنن التخطيط والتنفيذ.