قامت الدنيا ولم تقعد على خلفيّة التصريحات التلفزيونيّة التي أدلى بها وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبة، والتي وُصِفت بـ"غير الدبلوماسيّة"، واعتُبِرت "مسيئة" لدول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي لم تتأخّر في التعبير عن "احتجاجها"، من خلال استدعاء السفير اللبناني في الرياض.
في معرض "التبرير"، قيل إنّ وهبة "انفعل" بسبب "إساءات" لرئيس الجمهورية ميشال عون، فبالغ في "ردّة الفعل" من دون "اعتبار" لأصول "الدبلوماسيّة" التي يفترض أن يكون، من موقعه، أكثر الحريصين عليها، وقيل في المقابل إنّه عبّر عن رأيه الشخصيّ، وله كامل الحرية في اتّخاذه، طالما أنّه لا يتحدّث باسم الدولة اللبنانيّة.
لكن، بمُعزَلٍ عن الدوافع والنوايا، الظاهرة منها كما المبيّتة، فقد أثارت "الزوبعة" التي تسبّبت بها تصريحاته، في الداخل كما في الخارج، "نقزة" لدى كثيرين من إمكانية أن "تفاقم" العلاقة غير السويّة أصلاً بين لبنان والسعودية، التي لم يجفّ بعد حبر قرارها بمقاطعة المنتجات اللبنانية قبل أسابيع، وسط محاولاتٍ لم تنجح لثنيها عن المضيّ فيه.
فماذا بعد تصريحات وزير الخارجية المستجدّة؟ هل تنتهي بـ"اعتذار" المعنيّ، وطلبه "إعفاءه" من مسؤولياته، معطوفًا على "تبرؤ" المرجعيّات الأساسيّة ممّا صدر عنه، أم أنّها ستكون عنوان "أزمة" جديدة قد لا تكون محمودة العواقب، وهو ما دلّت عليه المؤشّرات الأولية؟
علاقة "ملتبسة"
ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها العلاقة بين لبنان والسعودية لـ"اهتزاز" قد يشكّل "انتكاسة" في مكانٍ ما، إذ إنّها تبدو "ملتبسة" منذ سنوات، للعديد من الأسباب والاعتبارات، وقد وصلت إلى ذروتها مع انطلاقة "العهد"، وعدم ارتياح القيادة السعودية لسياساته، رغم تعمّد رئيس الجمهورية أن تكون أولى زياراته الخارجية بعد وصوله للرئاسة، إلى المملكة.
لكنّ العلاقة التي بدأت تتراجع حين كان رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل وزيرًا للخارجية، واتُهِم بتمثيل مصلحة "حزب الله"، ولو تطلّب ذلك الخروج على "الإجماع العربي"، والتغريد بما يناقض مقتضيات "التضامن" بين العرب، ساءت تدريجيًا، قبل أن تصل إلى "القاع"، إن جاز التعبير، مع ما باتت تُعرَف، مجازًا ربما، بحادثة "اختطاف" سعد الحريري في الرياض، حيث قدّم استقالته من الحكومة دون سابق إنذار.
شكّلت هذه الحادثة نقطة "مفصليّة" على خطّ العلاقة بين الجانبَين، فهي أشّرت إلى "عدم رضا" المملكة عن الحريري، الذي كان يُصنَّف على أنّه "رَجلها الأول" في لبنان، ووضعتها من جهة ثانية في "صدام مطلق" مع "العهد"، الذي لم يتردّد في "رفع السقف" إلى أعلى مستوى، دفاعًا عن رئيس الحكومة "المختطف"، الأمر الذي شكّل "مروحة ضغط" واسعة، دخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصيًا على خطّها.
ورغم مرور وقتٍ غير قصير على هذه الحادثة، لا تزال العلاقة مع السعودية على "فتورها المُطلَق"، بالحدّ الأدنى، وهو ما تجلّى طيلة الأزمة التي مرّ بها لبنان في الآونة الأخيرة، والتي لم تُعِرها المملكة أيّ اهتمام، علمًا أنّ كثيرين يكادون يجزمون بأنّ "الفيتو" السعوديّ غير المُعلَن هو الذي لا يزال يحول فعليًا دون تشكيل الحكومة، التي يرفض رئيسها الإقدام على أيّ خطوة قبل أن يحصد "مباركة" الرياض، الأمر الذي يبدو بعيد المنال.
أين "أخطأ" وهبة؟
أكملت العلاقة تراجعها "الانحداري" في الأسابيع الأخيرة، وهو ما ظهر بوضوح يوم أعلنت السعودية، دون سابق إنذار أيضًا، قرارها بمقاطعة استيراد المنتجات الزراعية اللبنانية، الأمر الذي أثار استياءً واسعًا في الداخل اللبنانيّ، تُرجِم بمساعٍ حثيثة لـ"استرضاء" المملكة، خشية من تداعيات القرار التي قد تكون "كارثية" على الاقتصاد المتهالك، والذي يقف على حافة الانهيار، على وقع أزمةٍ غير مسبوقة منذ الحرب اللبنانية.
في ظلّ كلّ هذه الظروف، جاءت تصريحات وزير الخارجية شربل وهبة لتزيد "الطين بلّة" برأي كثيرين، ممّن يعتقدون أنّ على المسؤولين أن يَزِنوا كلّ كلمة تصدر عنهم، خصوصًا إذا ما كانوا مقتنعين بما يتحدّثون عنه ليلاً ونهارًا عن مؤامرة وحصار، وبالتالي فقد كان حريًا بوهبة أن يدرك التبعات المحتملة لكلامه، ولو تذرّع في معرض "تبريره" بأنّه لم يسمِّ أحدًا، أو أنّه لم يقصد دول الخليج، وهو ما يبدو أصلاً عصيًا على التصديق والإقناع.
في المقابل، يدافع البعض عن وهبة، ولو بدت تصريحاته "متهوّرة"، باعتبار أنّه في النهاية، مسؤولٌ عن كلامه، وهو أدلى بما يعكس آراءه الشخصية، من دون أن يُلزِم أحدًا بها، بدليل أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون تنصّل سريعًا منها، ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب استنفر على وقعها، على طريقة "الاستيضاح"، فيما اختار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري "المزايدة" عنوانًا لردّه، في مسعى ربما لـ"احتواء" ردود الفعل.
وثمّة من يذهب أبعد من ذلك، بالقول إنّ ما قاله وهبة بحق دول الخليج، لا يُعَدّ أكثر من "نقطة في بحر" ما يقوله مسؤولون وزعماء آخرون في حقّ دول أخرى، من دون أن يخشى أحد ردّة فعلها، إلا أنّ العارفين يعتقدون أنّ مثل هذه "الحُجّة" لا تستقيم، أولاً لأنّ المقارنة لا تجوز، ولأنّ وزير الخارجية هو في منصب رسميّ، وليس قياديًا حزبيًا حتى يسمح لنفسه بالخروج عن الدبلوماسية، وثالثًا وربما الأهمّ، لأنّ "حساسيّة" العلاقة مع السعودية تحديدًا كانت تفترض من الوزير المعنيّ مقاربةً مختلفة في الشكل والمضمون.
"سيناريوهات".. وواقعية
ثمّة من يتحدّث عن "سيناريوهات" صعبة لما بعد تصريحات وزير الخارجية، من بينها أن تعمد السعودية إلى طرد السفير اللبناني لديها، أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع لبنان، فيما يذهب البعض الآخر إلى حد "التكهّن" بإمكانية ترحيلها الجالية اللبنانية في المملكة.
قد تكون مثل هذه "الفرضيّات" مضخَّمة، فلا شخص وزير الخارجية ولا ما صدر عنه يستحقّان ردّة فعل بهذا لحجم، ولا العلاقة التاريخيّة بين بيروت والرياض تتيح الوصول إلى هذا الدرك، ولا الظروف الحالية تعطي المسؤولين "ترف" نعي العلاقات عن بكرة أبيها.
ولعلّ "اعتذار" وزير الخارجية ومن ثمّ تنحّيه، كافٍ لدحض كلّ هذه "الفرضيات"، إلا أنّ هناك من يبدو مقتنًعا بأنّ تصريحات وهبة لن تمرّ مرور الكرام، ودون أخذ ورد، وستتسبّب بأزمة دبلوماسية مع الرياض، أزمة يعتقد آخرون أنّها حاصلة أصلاً، ولو بصمت، وقد تكون بحاجة إلى "صدمة" حتى تُعاد إلى الصراط المستقيم!.