بمجرّد أن أعلن رئيس الجمهورية ميشال عون توجيهه رسالة إلى البرلمان، عملاً بصلاحيّاته الدستورية، يشكو فيها "عجز" رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري إنجاز المهمّة الملقاة على عاتقه، حتى بدأت التحليلات والتفسيرات والتكهّنات، حول "الأهداف" والغايات المنشودة من ورائها، وطبيعة "الخرق" الذي يمكن أن تُحدِثه على أرض الواقع.
لم يتأخر "خصوم" عون و"العهد" للتعبير عن "سخطهم" من رسالةٍ اعتبروا أنّ "أضرارها" أكثر من "منافعها"، باعتبار أنّ "سابقة" سحب التكليف من الحريري لن تحصل، وبالتالي فإنّها لن تؤدّي من الناحية العمليّة، سوى لـ"تعقيد" الأزمة "المعقّدة" أكثر، بل لتعميق "الشرخ" بين بعبدا وبيت الوسط، بما يطيح بأيّ "أمل" بكسر الجليد.
وهناك من ذهب أبعد من ذلك، ليقرأ في الرسالة محاولة من فريق "العهد" لإلهاء الرأي العام عن قضية تصريحات وزير الخارجية المتنحّي عن مهامه شربل وهبة وما أثارته من "زوبعة" على غير صعيد، فلجأ إلى خطوةٍ لطالما لوّح بها، لكنّه أقلع عنها لإدراكه "تبعاتها" التي قد لا تكون قابلة للهضم والاستيعاب في بعض الأوساط السياسيّة.
لكن، ما الأهداف الحقيقيّة التي توخّاها الرئيس عون من توجيه هذه الرسالة؟ وما هي النتائج المتوقَّعة والمتوخّاة منها، علمًا أنّ المؤشّرات الأولى، على هامش جلسة تلاوتها في البرلمان، لم توحِ بأيّ "فرز" جديد من شأنه "خلط" الأوراق بالكامل؟
"سابقة" لن تمرّ!
لا يتردّد خصوم رئيس الجمهورية في "التصويب" بشدّة على "الرسالة الرئاسيّة"، للعديد من الاعتبارات والأسباب، أولها من حيث الشكل والتوقيت، في عزّ "القطيعة" بينه وبينه رئيس الحكومة المكلَّف، وثانيها من حيث المضمون، الذي بدا أكثر من "قاسٍ" بحقّ الحريري، من دون أن يترك أيّ خطّ للرجعة، أو ربما "الصلح" معه، خصوصًا بعدما جاء في متنها أنّ "عجز" الرجل عن تأليف الحكومة بات "ثابتًا".
بالنسبة إلى هؤلاء، فإذا كان المقصود من رسالة عون إلى البرلمان دفع الأخير إلى "سحب التكليف" الذي سبق أن منحه للحريري، فعلى رئيس الجمهورية أن يدرك أنّه من "سابع المستحيلات"، أولاً لكون مثل هذه "السابقة" لم تحصل من قبل، وقد يكون "مستعصيًا" أن تحصل اليوم بالتحديد، في ظلّ الكباش الحاصل على أكثر من صعيد، والذي لا يخفي طابعه الطائفي والمذهبيّ، من بوابة "الصلاحيات" التي يتلطّى خلفها الجميع بين الفينة والأخرى.
وإذا كان هذا "الكباش" عاد إلى الظهور بكلّ قوة على خلفيّة الرسالة، وهو ما تجلّى مثلاً في بيان رؤساء الحكومات السابقين الذين قاربوا خطوة الرئيس بسلبيّة شديدة، واعتبروها بمثابة "عبث بالدستور"، فإنّ فكرة "سحب التكليف" تبقى مُستبعَدة على المستوى السياسيّ أيضًا، علمًا أنّ هناك من شبّه الرسالة الرئاسيّة بخطابه الشهير عشيّة الاستشارات النيابية، والذي لم يُثنِ كتلاً نيابية واسعة عن تسمية الحريري، وهي بمجملها لا تزال داعمة له، بصورة أو بأخرى.
أما إذا كان المقصود من الرسالة "إحراج" الحريري مرّة أخرى، عبر تحميله مسؤولية عدم تأليف الحكومة أمام البرلمان مجتمِعًا، بما قد يمهّد لـ"إخراجه طواعيّة" من المعادلة، فإنّ الخشية وفق الخصوم أن تؤدّي هذه الخطوة إلى "مفعول عكسي"، خصوصًا إذا ما صحّت التسريبات عن أنّ الرسالة التي قرأها الحريري بمثابة "تحدٍّ شخصيّ" له أسقطت فكرة "الاعتذار"، التي كانت قبل أيام قليلة أكثر من واردة، بل أقرب من أيّ وقتٍ مضى.
"الخرق" حصل!
بمُعزَلٍ عن كلّ ما سبق، ثمّة من يعتبر أنّ الرسالة الرئاسيّة حقّقت عمليًا الأهداف المنشودة منها، أقلّه من جانب رئيس الجمهورية، وهي أحدثت "خرقًا" معيَّنًا وغير بسيط في المشهد، ولو تفاوتت تقديراته وقراءاته، علمًا أنّ هدف "سحب التكليف" الذي نال قسطًا واسعًا من التحليل والتمحيص، لم يكن "جوهر" الرسالة، بل هو مجرّد "تفصيل" لا يقدّم ولا يؤخّر، بحسب ما يؤكّد المحسوبون على عون، استنادًا إلى القراءة "الواقعيّة" للخريطة السياسيّة.
ويشير هؤلاء إلى أنّ الرسالة، في العمق، شكّلت ردًا مباشرًا على "الجمود" الذي تعاني منه قضية تشكيل الحكومة، منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري إلى قصر بعبدا، حين اختار "التمرّد" على رئيس الجمهورية، فلجأ إلى منبر القصر للتصويب عليه بعنف، فكانت جولة من "الكباش" انتهت إلى صدّ كلّ الوساطات والمبادرات، والتعامل معها كأنّها لم تكُن.
منذ ذلك الوقت، يقول هؤلاء إنّ رئيس الحكومة المكلَّف أصبح "بحكم المعتكف"، فهو لا يزور قصر بعبدا، ولا يردّ على "دعوات" رئيس الجمهورية المتكرّرة له للنقاش بالتشكيلة، متمسّكًا بالصيغة التي قدّمها والتي لم يجِد فيها عون المقوّمات الأساسيّة المطلوبة، وبدل أن يكثّف اجتماعاته مع الرئيس، يجول في بعض العواصم العربيّة والإقليميّة، محتجزًا ورقة التكليف في جيبه، بانتظار "فرجٍ" لا يعلم أحد متى وكيف سيأتي.
من هنا، يعتقد المقرّبون من رئيس الجمهورية بأنّ الرسالة الرئاسيّة حقّقت هدفها الأساسيّ، من خلال إعادة "إحياء" ملفّ الحكومة، وإخراجه من حيّز "الجمود" الذي بقي عالقًا فيه لأشهر، بل ربما الأهم، إعادة "النقاش" إلى قلب المؤسّسات المعنيّة، ولو أنّ البعض رأى في إدخال البرلمان على خطّ التأليف "خروجًا على الدستور"، باعتبار أنّ السلطة التشريعية ينتهي دورها بتكليف رئيس الحكومة، الذي يعود إليه أن يرجع لأخذ الثقة بعد أن ينهي المهمّة المطلوبة منه.
"ثغرة كبرى"
يقول "خصوم" رئيس الجمهورية إنّ "رسالته" إلى البرلمان شكّلت "هروبًا إلى الأمام"، وإنّها لن تحقّق الأهداف المنشودة من ورائها، بل قد يكون مفعولها عكسيًا، من حيث رفع مستوى التشنّج إلى الحدّ الأقصى، بما ينعى سلفًا أيّ فرصة للتفاهم.
ويقول "مؤيّدو" رئيس الجمهورية إنّ رسالته جاءت لتُحدِث "خرقًا"، قد يكون مجرّد عودة الحديث بالملف الحكوميّ، الذي ينبغي أن يكون "أولوية الأولويات" في ظلّ الأزمات المتفاقمة التي يتخبّط خلفها الوطن، والمرشّحة للتفاقم أكثر فأكثر.
لكن بين هؤلاء وأولئك، يبقى الأكيد، برسالة ومن دونها، أنّ أزمة التأليف المستعصية، "فضحت" ثغرات بالجملة في نظامٍ بات "يستنفر" بسبب صلاحيّة من هنا، ورسالة من هناك، لكنّه يغفل عن "العمق والجوهر".
ثمّة أزمة فعليّة تستحقّ المزيد من التمعّن والدرس، فهل يجوز أن يبقى البلد "أسير" خلاف بين رئيسي الجمهورية والحكومة؟ وأيّ دستور هو ذلك الذي يسمح ببقاء "الفراغ" إلى ما شاء الله، ومن دون أيّ خطوات رادعة، لهذا أو ذاك؟!.