على عكس التعب والارهاق اللذين ظهرا عليه بسبب وضعه الصحي، بَدا الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله اكثر اطمئناناً وهدوءاً في مضمون كلمته. فالنتائج التي رسَت عليها جولة القتال الاخيرة في غزة، كشفت في وضوح اكثر مناخاً اقليمياً جديداً، اضافة الى مؤشرات واضحة حول جملة متغيّرات مهمة ستشهدها ساحة الشرق الاوسط.
كعادته «حزب الله» يقرأ الصورة الاقليمية بلهجة المشهد اللبناني. ولذلك، بَدا السيد نصرالله متعاوناً بدرجة كبيرة في الملف الحكومي أولاً بسبب التطورات الكبيرة على المستوى الاقليمي ما يستوجب وجود حكومة قادرة على تأمين الغطاء الداخلي لمواكبة المستجدات الاقليمية. وثانياً، لأن الوضعين الاقتصادي والمالي دخلا النفق المظلم وهو ما يفرض بإلحاح الذهاب الى حكومة تداركاً لانفلات الشارع.
ضمناً قد يكون «حزب الله» يدرك جيداً انّ معركة غزة الاخيرة فتحت الباب واسعاً أمام دينامية سياسية قوية في المنطقة ستواكب بلا شك اعادة اطلاق الاتفاق النووي بعد مفاوضات ماراتونية بين الولايات المتحدة الاميركية وايران بعضها يجري في فيينا وهو منظور، وبعضها الآخر، وربما الأكثر اهمية، يدور في منطقة اخرى وهو سيبقى غير منظور. ومعه، فإنّ الفوضى السياسية، والتي أنتجت ازمة حكومية، من الممكن استثمارها في حال كانت الاجواء الاقليمية ضبابية. لكن عندما تبدأ الأجواء بالانقشاع، فإنّ مردود الفوضى السياسية في لبنان ينقلب ليصبح سلبياً.
خلال الأشهر الماضية دارت معارك سياسية كثيرة وتم تنفيذ عدد من المناورات، لكنّ النتيجة بقيت كما هي ولم يستطع اي فريق تسديد الضربة القاضية لغريمه. والمقصود هنا النزاع الذي كان دائراً حول الحكومة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف التشكيل سعد الحريري. فلا الأول نجح في إقصاء الثاني او على الأقل دفعه للقبول بحكومة بشروطه، ولا الثاني استطاع زحزحة الاول عن شروطه ودفعه للاستسلام وتحويل الصيغة الحكومية التي اقترحها الى مجلس النواب للبَت فيها. آخر هذه الجولات جرت في ساحة مجلس النواب، وشهدت استنفاذ آخر أدوات الضغط بيد رئيس الجمهورية من خلال الرسالة التي أحالها وأدّت الى نتائج عكسية.
ومعه، أضحى الأفق مقفلاً كلياً امام الحلول، كما انّ العادة اللبنانية بالتعويل على جهود خارجية تؤدي الى فتح كوة في الجدار المسدود لم تعطِ نتائجها هذه المرة. فالقوى الخارجية غارقة في مشكلاتها ومشكلات المنطقة الكبيرة، فيما فرنسا الدولة الوحيدة التي أبدت استعدادها للدخول الى الوحول اللبنانية، عادت وانسحبت بعد خشيتها من الغرق في الرمال المتحركة اللبنانية، ولجأت من بعيد الى الانتقام عبر لائحة العقوبات التي باشرت في تطبيقها وعبر إبلاغ عدد من الشخصيات السياسية اللبنانية بشمولها بالعقوبات.
السيّد نصرالله نزع الاعذار الخارجية، والتي كان يتراشق بها طرفا النزاع. فالازمة هي داخلية مئة في المئة، اي ان لا علاقة لأي جهة خارجية بالتعطيل لا الولايات المتحدة الاميركية ولا السعودية، كما كان يتهم الفريق المناوئ للحريري ولا ايران كما كان يتهم الفريق المناوئ لعون. وان يحصر الامين العام لـ»حزب الله» الازمة الحكومية بطرفين هما رئيس الجمهورية والرئيس المكلف فلهذا معناه العميق. والأهم ان يقترح السير بوساطة الرئيس نبيه بري خصوصاً بعد جولة الكباش في مجلس النواب حول رسالة رئيس الجمهورية فلهذا ايضاً تفسيره البليغ.
وقيل انه منذ انعقاد الجلسة عادت الاتصالات شبه اليومية بين بري ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل. وربما هذا ما دفع بالسيّد نصرالله للجوء الى خيار وساطة بري.
وعلى مستوى العقد الحكومية تبقى العقدة الاساس المتبقية هي تلك المتعلقة بحقيبتي وزارتي الداخلية والعدل. لكن المشكلة انّ الخلفيات التي تتحكم بهاتين الحقيبتين سياسية ولها علاقة مباشرة بالاستحقاقين المنتظرين: الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية. فمشكلة وزارة الداخلية انها ستشرف على الانتخابات النيابية، والتمسّك بها يهدف الى التأثير في النتائج. وبات معروفاً أنّ التأييد الشعبي لعدد من الاحزاب تراجع، ما يعني انّ المسألة هي مسألة حياة وموت.
أمّا وزارة العدل فكل طرف يخشى استخدام ملفات الفساد ضد خصمه ولكن في اطار الاستهداف السياسي لا الاصلاح الجدي. وهذه المعارك كانت قد بدأت حتى قبل تشكيل الحكومة. فعدا التدقيق الجنائي المطلوب من مصرف لبنان، هنالك ما ظهر حول عمولات البواخر والتوقيفات التي حصلت ثم إعادة اطلاق سراح احدهم وتركه يغادر لبنان في شكل مُثير للشبهات. والى جانب ذلك، الوثائق التي قدّمها رئيس لجنة المناقصات جان العلية حول مناقصات البواخر والتي حملت تساؤلات كثيرة وكبيرة.
في المقابل، بدأت حملة مضادة حول تلزيمات مشبوهة في بلدية بيروت، كذلك ملف كازينو لبنان مع الاشارة الى وجود اتجاه لفتح ملفات اخرى. وفي وقت بَدا فيه المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم رافضاً بداعي «القرف» ربما القيام بأي مبادرات جديدة، يُحكى أن بري يستعد لطرح صيغة جديدة تُحاكي مخاوف طرفي النزاع واللذين كانا طرفا التسوية الرئاسية منذ نحو 5 سنوات.
في افكار بري الجديدة ان يقدّم عون لائحة من اكثر من 10 اسماء من غير الحزبيين لتولّي وزارة الداخلية ويختار الحريري أحد هذه الاسماء.
وفي المقابل يقدم الحريري لائحة مماثلة لأسماء مرشحه لتولي وزارة العدل، ويختار عون أحدها على ان يلتزم مرشح وزارة الداخلية بعدم الاستقالة من الحكومة تحت اي ظرف كان، وهو مخرج يُحاكي منع رئيس الجمهورية من حيازة الثلث المعطّل ولو بطريقة مواربة.
لكن هل يسلم طرفا النزاع ومن يقف خلفهما بعزل التشكيلة الحكومية المنتظرة عن استثمارها في لعبة الاحجام والاوزان النيابية، والأهم من ذلك استحقاق رئاسة الجمهورية؟
لا تبدو الاجابة بهذه السهولة، فبعد انتهاء المواجهة حول الرسالة الرئاسية في المجلس النيابي، تصاعدت الاجواء حول نية تكتل «لبنان القوي» تقديم استقالة أعضائه من المجلس النيابي الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة في شكل مناقض لمواقف رئيسه السابق.
وفي هذا الموقف تقاطع مع موقف «القوات اللبنانية»، لاحقاً ذكرت مصادر التكتل أنّ ما جرى تناقله ليس دقيقاً ذلك انّ المطروح ليس الاستقالة إنما التقدم بمشروع قانون لانتخابات مبكرة. أيّاً تكن الصيغة الأصح، الا أنّ الاوساط السياسية وضعت ذلك في اطار المناورة السياسية، خصوصاً انّ «التيار الوطني الحر» سيكون أحد اكثر المتضررين من ذلك. أما المقصود من هذه المناورة فوضعها مصدر ديبلوماسي غربي في إطار توجيه رسالة انزعاج من باسيل الى «حزب الله». فالانتخابات النيابية المبكرة ستعني عملياً فقدان «حزب الله» للغالبية النيابية قبل الدخول في الترتيبات الاقليمية والدولية المنتظرة للصورة المستقبلية لتوازنات السلطة في لبنان بعد اعادة العمل بالاتفاق النووي.
بمعنى آخر خسارة «حزب الله» للغالبية النيابية من دون ان يسبق ذلك ترتيب وضمانات يريدها الحزب للمرحلة المقبلة. ذلك أنه بات محسوماً للجميع انّ ما اصطلح على تسميته المجتمع الدولي سيدخل الى لبنان من باب الاصلاح الاقتصادي والمساعدات واعادة بناء مؤسسات الدولة.
ولا شك في ان «حزب الله» بات يدرك ذلك ربطاً بالصورة الاقليمية الجاري رسمها. وسيشكل الاستحقاق النيابي المقبل المحطة الاولى من ضمن برنامج عريض. ولكن ثمة حاجة الى مساحة زمنية تسمح انتهاء المفاوضات الاميركية ـ الايرانية، وعلى ان يَلي ذلك الانصراف فوراً الى اعادة ترتيب الساحات التي شكلت خطوط تماس بين طهران وواشنطن، مثل اليمن وايضاً سوريا ولبنان. صحيح أنّ حل العقدة الأكبر مع ايران سيجعل بقية العقد قابلة للحل بسرعة اكبر، لكن عامل الوقت يبقى اساسياً، ومعه يتوقع ان يتحرك ملف الدستور الجديد في سوريا وترتيبات الوجه الجديد للسلطة بدءاً من نهاية الصيف المقبل، وكذلك بالنسبة الى لبنان وكل ما يتعلق بالضمانات المطلوبة وترسيم الحدود البحرية والبرية واعادة ترتيب وضع مرفأ بيروت وايضاً مطار بيروت واعادة تنظيم السلطة.
كل ذلك لا يتوافق مع انتخابات مبكرة، على ما يبدو الهدف من طرحها في هذه المرحلة توجيه رسالة اعتراض، خصوصاً انّ الضباب الكثيف يحجب الرؤيا عن الاستحقاق الرئاسي المقبل، وهنا بيت القصيد.