مجدّدًا، رُصِد حراكٌ سياسيّ على خطّ الحكومة خلال الأيام القليلة الماضية، على وقع ما أثير عن "تفعيل" مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري لتقريب وجهات النظر، والتي لقيت "مؤازرة" كاملة المواصفات من الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله في كلمته الأخيرة، التي أدرج نفسه خلالها في خانة "الوسط".
وإذا كانت مبادرة رئيس البرلمان تأتي، برأي كثيرين، "مكمّلة" للجهود التي يبذلها البطريرك الماروني بشارة الراعي، والتي لم تنتهِ فصولاً رغم كلّ ما يُشاع بخلاف ذلك، فإنّ ما أثير عن "مهلة أسبوعين" وضعها بري لإحداث "الخرق" الحكوميّ الموعود أحيا الأمل بتطوّراتٍ نوعيّة قد تشهدها البلاد في الأيام القليلة المقبلة.
ولعلّ ما استوقف كثيرين في هذا المضمار أيضًا، أنّ هذا الحراك الداخليّ أتى متزامنًا مع عودة الاهتمام الخارجيّ بالملفّ الداخليّ، وهو ما تجلّى من خلال المواقف التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد طول "انكفاء"، وذلك على هامش استقباله قائد الجيش العماد جوزف عون، الذي لقي بالمناسبة "حفاوة" لافتة، قد يكون لها معانيها ودلالاتها.
وبين الحراك الداخليّ والاهتمام الخارجيّ، ثمّة علامات استفهام تُطرَح، فهل ينساق اللبنانيون هذه المرّة وراء الأجواء التفاؤليّة، أم أنّ دروس الماضي القريب كافية لتبديد أيّ آمال بالحلّ؟ وهل يبدو احتمال تشكيل الحكومة في غضون أسبوعين، كما يُحكى، واردًا أو حتى واقعيًّا؟!
"مؤشّرات" يُبنى عليها
بمُعزَلٍ عن مدى حقيقة الأجواء "التفاؤليّة" التي يتمّ بثّها هنا وهناك، يرى كثيرون أنّ ثمّة مؤشّرات حقيقيّة لحراكٍ ما في الأجواء تستوجب الوقوف عندها، وقد بدأت منذ جلسة البرلمان الأخيرة قبل أسبوع، والتي خُصِّصت لمناقشة رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون حول أسباب التأخّر في تأليف الحكومة، بعد أشهر على التكليف.
ومع أنّ الأجواء السلبيّة طغت على مجريات الجلسة، سواء من خلال كلمة رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري "القاسية" فيها، أو من خلال ردود الفعل التي أعقبتها، وما انطوت عليه من أخذ وردّ بين فريقي الأزمة، إلا أنّ كثيرين يعتقدون أنّها فتحت "ثغرة" في الجدار، "تسلّل" منها رئيس البرلمان لإعادة "التسويق" لمبادرته.
واستنادًا إلى ذلك، لم يتأخّر بري في إعادة إطلاق "محرّكاته"، الأمر الذي بدا جليًا منذ مطلع هذا الأسبوع، ولو أنّه تجنّب "المجاهرة" بها في كلمته في مناسبة عيد المقاومة والتحرير يوم الإثنين الماضي، مكتفيًا بالإشارات المُعلَنة والمُبطَنة على طريقة "الغمز"، إن جاز التعبير، قبل أن يتوّجها بحديثٍ صريح نُسِب إليه عن مهلة "حاسمة" لن تصمد أكثر من أسبوعين، فإمّا تنتهي بتشكيلةٍ حكوميّة مُنجَزة، وإمّا بأزمة مفتوحة بلا أفق منظور.
وجاءت كلمة السيد حسن نصر الله لتعزّز هذا المنحى، رغم حرص الرجل على "خفض" سقف الكلام في الملفّ الحكوميّ، ربما من باب "خفض" سقف التوقّعات، فضلاً عن التفسيرات والتحليلات كما التكهّنات. لكنّ السيد نصر الله كان واضحًا في المقابل، توازيًا مع اعتماده نهج "الحياد" بدعم عون والحريري في آن واحد، بمنح بري "تفويضًا كاملاً" لمواصلة مساعيه الإنقاذية، باعتبارها تشكّل الفرصة الوحيدة لحلّ الأزمة.
"من جرّب المجرّب"
في "التسريبات"، يُقال إنّ هذه الأجواء المُعلَنة تترافق مع اتصالاتٍ في الكواليس يقودها بري خصوصًا مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، لإقناعه بتقديم تشكيلة حكومية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار، بشكلٍ أو بآخر، الملاحظات "العونيّة" على تشكيلته السابقة، بدءًا من حجمها، بحيث تُوسَّع إلى 24 وزيرًا، مع احترام "المبدأ الثابت" القائم على رفض "الأثلاث" داخلها، معطَّلة كانت أو ضامنة، أو سوى ذلك.
وفي وقتٍ تكشف المعطيات المتوافرة أنّ الحريري "متجاوب" مع بري، ربما لما لدى الأخير من "مَوْنةٍ" لديه، بعدما أثبت بالفعل والممارسة وقوفه إلى جانبه "ظالمًا أم مظلومًا"، في ترجمةٍ للشعار الذي أطلقه "الأستاذ" ذات مرّة، فإنّ الحديث يدور حول "ضمانات" يطلبها لتأكيد "تجاوب" الفريق الآخر مع هذه الطروحات، وعدم "الانقضاض" عليها عبر "افتعال" عقد جديدة في اللحظة الأخيرة، قد لا تكون "على البال أو الخاطر".
وثمّة من يعتقد أنّ "حراك" بري يكتسب زخمًا وجدّية هذه المرّة استنادًا إلى كسر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "صمته"، وربما "اعتكافه"، ودخوله مجدّدًا على خط الملف اللبناني، خلال استقباله قائد الجيش، حيث ذكّر بـ"شروط" تقديم المساعدات، ما أوحى لكثيرين أنّ المبادرة الفرنسيّة عادت "حيّة تُرزَق"، بعدما تولّى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان نعيها ودفنها، في زيارته الأخيرة، التي لا يذكرها اللبنانيون بالخير.
لكنّ كلّ ما سبق من مؤشّرات قد لا تعني شيئًا على أرض الواقع، أولاً لأنّها قائمة بمجملها على تسريبات وتكهّنات، من دون أيّ مواقف مُعلَنة تُلزِم أصحابها، ما يترك باب "المناورة" مفتوحًا على مصراعيه، وثانيًا انطلاقًا من التجربة، ووفق قاعدة أنّ "من جرّب المجرّب عقله مخرّب"، خصوصًا أنّ الرهان على حراك الداخل والخارج جُرّب مرارًا وتكرارًا منذ تكليف الحريري، لكنّه كان دائمًا يخلص إلى تثبيت قاعدة "حركة بلا بركة"، ونقطة على السطر.
"تسوية" بين ليلة وضُحاها؟
يرى كثيرون أنّ ما عجز الوسطاء عن تنفيذه في أشهر، لن ينجح رئيس البرلمان في إنجازه في أسبوعين، طالما أنّ المواقف لا تزال على حالها، بل إنّ المُعلَن منها يوحي بـ"قطيعة نهائيّة" بين ركني الأزمة، اللذين يدرك الجميع أنّ لا حلّ من دون تفاهمهما.
قد يكون مثل هذا الكلام صائبًا، ولو أنّ دعاة "التسوية"، وبري على رأسهم، إلى جانب رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، وسواهما من المؤمنين بصيغة "لا غالب ولا مغلوب"، يروّجون في المقابل لمبدأ أنّ لكلّ أزمة خاتمة، عاجلاً أم آجلاً.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ السياسيّين في وادٍ، والناس في وادٍ آخر، في ضوء الأزمات المتفاقمة، التي تحدق بهم من كل حدب وصوب، وهم ينتظرون حكومة تعالجها، ولو أنّ الآمال بحصول ذلك ضعيفة، ولو تشكّلت الحكومة اليوم قبل الغد.
ولعلّ المصيبة أنّ الحكومة التي ينشدها الناس، هي غير تلك التي يبحث السياسيون في "جنس ملائكتهم"، وهم يتمسّكون بنهج تقاسم المغانم، على طريقة "حصّتي خط أحمر، وكلّ ما عدا ذلك خاضع للنقاش"!.