نعم. هذا هو الواقع. يبيع اللبناني اليوم لبنانه الكبير الذي بلغ عمره المئة سنة، بثمنٍ قدره وبيانه مئة دولار أميركي فقط لا غير.
هل أُعلن أنّ الأستاذ الجامعي، مثلاً، بات يُضرب أويغيب عن طلاّبه ولو كانت المحاضرات "أون لاين"، لأنّ الساعات الجامعيّة بل التعليم العالي صار دون "العتالة"، بل خارج دوائر التأثير والتغيير في رسائل البناء الوطني عبر الأحرام الجامعيّة. لقد "ملّت من الشكوى الثواني" كما كتب صديقي الشاعر الحبيب المنتحر خليل حاوي، وصار الهمّ والنقاش والحلم في البحث عن لحظة الإقلاع من لبنان. رمت طالبةً دكتوراه أمامنا عدداً طلبات الهجرة للشابات والشباب فقط في الربع الأوّل من هذا العام: 153454 إلى فرنسا، 98773 إلى أميركا، 64471 إلى كندا، و40096 إلى البرازيل، و71 722 إلى بلاد أُخرى وقالت أنّ أعداد المُغادرين نهائيّاً في ال2019-2020 قد بلغ 154724 بالرغم من مخاطر الكورونا وإقفال المطارات.
مغادرة لبنان هو حلم النوم واليقظة والخيال الذي يوحّد شباب وشابّات المجتمعات اللبنانية المتنوّعة الفاشلة. المغادرة بكلّ الطرق والوسائل،. لقد سُدّت الطرق، ونفذ الصبر والقهر من الأضلاع، وتفاقمت الإنهيارات العصبيّة والإنتحارات والإنغماس في الإدمان واندلقت المصائب والأمراض الجسدية والنفسية على أبواب الصيدليّات والمستشفيات التي تُعلن يوميّاً عن عجزها في استقبال المرضى.
هل هناك أقسى من كلام نقيب الأطبّاء الذي يشبه الهدهد، مثلاً يعلن من على الشاشات بأنّ المستشفيات تُقفل أبوابها لعدم قدرتها بل لعجزها عن استقبال المرضى الذين هم بحاجةٍ إلى عمليّات جراحيّة لعدم توافر المعدّات ولهجرة الأطبّاء والممرّضات.
يمكن لأيّ قاريء، أن يضع مقدّمةً هذا المقال فوق طاولة كلّ من يعتبر أو يعتدّ بنفسه زعيماً أو مسؤولاً في لبنان أيّاً تكن مسؤوليته، حتّى ولو لم تعترف بها زوجته وأولاده ضمناً. ويمكن لأيّ قاريء أن يرمي هذه المقدّمة فوق طاولات الدول الشقيقة والصديقة العربيّة المسيحية والإسلاميّة سنيّة وشيعية والبوذية وفوق طاولات رؤساء الغرب والشرق وفي صناديق بريد المنظّمات الإقليمية والدولية، لربّما تهتزّ الذقون. لكنّني على يقينٍ، بأنّ الجواب اللبناني الرسمي سيكون بارداً تافهاً يُبلغك، ومن دون رمشة عينٍ أو شفتين مقلوبتين، أنّ هذا هو تاريخ لبنان مذ كان فلا تعجب ولا تتحمّس. ويروح يقنعك بأنّ عدد المُهاجرين اللبنانيين في البرازيل يتجاوز ال10 ملايين بينما الباقين اليوم في الديار لا يتجاوز الثلاثة ملايين. كيف يفرح مسؤول "كبير" بهذه الأرقام التي لم ولن تحرّك وبرةً في بدنه أو أبدان المسؤولين أمثاله المقيمين في الفراغ والسادية والتنابذ والتطاحن في صلاحياتٍ قشورية ذات طبيعة سنية وشيعية وغير ذلك، بعدما تفتّتت بقايا جمهورية الطائف في عفن الطائفيات والمذهبيات والسرقات وال"قوميسيونات" وقراءات الدستور المملّة وتفسيره وتغسيله وتنشيفه بلا ظهور أيّ ملمحٍ مُضيءٍ جديد.
لن أتردّد بسجن صفة "الكبير" بين قوسين لهذا المسؤول تدليلاً على سقوط المسؤولية في حفرةٍ من اللعبة القذرة التي لا قرار فيها.
لماذا؟ أتعرفون ماذا كان جوابه؟
قال: "فليذهب اللبنانيون كلّهم إلى الخارج، وإنّني لن أتراجع قيد أنملة عمّا أقتنع به، وأضاف، بعدما بلع بريقه، تصوّروا ماذا قال: "لو لم يكن هناك هذا الكمّ الهائل من أهلنا وأولادنا في الخارج لكانت أعداد الفقراء والسرقات والقتلى أكثر من أعداد المهاجرين الذين تُبلغني بهم وعنهم.". صُعقت محاولاً الإستفسارعمّا يعنيه. قال: "أنّ هؤلاء المهاجرين هم الذين يمسكون بلبنان معلّقاً دون السقوط النهائي. يكفي أن يرسل المغترب اللبناني مئة أو مئتي دولاراً أميركيّاً لعائلته شهرياً حتّى يستكين الأمر وتهدأ الثورات والحركات والمطالبات وصراعات الأحزاب والطوائف، ولو وصل سعر الدولار إلى ما يتجاوز 12000 ليرة للدولار الواحد، فإنّ المطابع شغّالة، والله طيلة عمره يدبّر لبنان"!
شردت للحظات عمّا سمعت فقال: "لا يعنيني الوضع الخاص للناس بل الوضع العام". لم أسأله عمّا يقصد بالوضع العام. إنصرفتمتذكّراً رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون معلناً بأنّنا نتّجه نحو الجحيم بعد مئة سنة من الإستقلال.
هو يقصد بالعام قطعاً اتفاق "الطائف" الذي طاف الدنيا ولم يقرأه أحد وجنّن الجمهورية الباقية حتماً "بلا دستور"، بعدما جعله الداخل والخارج نصّاً مستحيلاً واتّفاق تسوية بين بقايا الأطراف التي أدمتها الحروب. وإذ تفترض التسويات فلسفياً التراجع أو التنازل عن بعض المطالب والحقوق والعادات الطائفية المزمنة في إدارة السلطات، فأمر لم يتم ولن يتمّ ، إلا بإعادة تعويض العائلات والأطراف المستنسخة والمتيبّسة ثقافياً وفكرياً وطائفيّاً، بتوزيع السلطة "مغانم" في ما بينها. أن نصّ الطائف ومحاولات تطبيقه منذ تعيين النواب للنوّاب ينهار كلّ يوم بين مطالب المعارضين والموالين والمقاطعين والمستقيلين والمبعَدين والمسايرين والمستقلين واللامبالين.
فُرض السلم بنصٍّ لم يُثبّت تفاعلاً ولم تُحَل المليشيات كلّها أوتُسلّم الأسلحة، ولم يُعمّر مدماك في المؤسسات الدستورية المنهارة من تحت الركام بعد شللها عبر الحروب والخرائب، ولم يكن أو يعُد ممكناً إعادة النظر الشاملة به. النتيجة اهتراء كامل إذن، لأن لبنان صار بالإسم في الجمهورية الثانية أو الثالثة على ما قال العميد ريمون إدّه، لكنّه يُدار بعقليّة متحجّرة في الجمهورية الأولى وكأنّنا في العصر الحجري.
هل أُزيد من دون أيّة مغالاة بالقول أنّ 70 بالمئة تقديراُ من اللبنانيين المعوزين في وطنهم لبنان باتوا يحسدون النازحين السوريين والمهجّرين الفلسطينيين والسائقين وعاملات المنازل من أنحاء الدول الفقيرة الذين يتقاضون مساعدات شهريّة بالدولار؟
إسمعوا وعوا: إنّنا على ضفاف حروبٍ وهجرات جماعية متنوّعة ستعكّر بحيرة الأبيض المتوسّط وشواطيء أوروبا والعالم أجمع.