صحيحٌ أنّ "بارقة أمل" لاحت على خطّ تأليف الحكومة، استنادًا إلى "تفعيل" رئيس مجلس النواب نبيه بري لمبادرته، بعد أشهُرٍ من "الانكفاء"، ما أوحى لكثيرين بوجود "فرصة"، ولو ضعيفة، لتحقيق "المعجزة" التي من شأنها أن تتيح للحكومة العتيدة أن تبصر النور.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه الفرصة، التي قال برّي نفسه إنّها قد تكون "الأخيرة"، تبقى "محدودة"، لا سيّما وأنّ رئيس البرلمان حدّدها بمهلةٍ "مفصليّة" قصيرة لا تتجاوز الأسبوعَيْن، فإما يتصاعد الدخان الأبيض بانتهائها، وإما تكون الطريق إلى المجهول أقرب، وهو المرجَّح.
انطلاقًا من ذلك، لا تزال "الخطة باء" محور أخذ وردّ في الأوساط السياسيّة، حيث تُطرَح العديد من السيناريوهات على الطاولة، وفي مقدّمها الانتخابات المبكرة التي يؤكد الدعاة إليها أنّها "مفتاح الحلّ" الوحيد، وأنّ كلّ نقاش يصرف النظر عنها هو "تضييع وقت" ليس إلا.
ولعلّ ما عزّز نقاش هذا "السيناريو" تمثّل بإعلان "التيار الوطني الحر" نفسه، أكثر من مرّة في الأسابيع القليلة الماضية، أنّ "سحب التكليف" من الحريري، إذا تعذّر قانونيًا ودستوريًا، فيمكن فرضه بقوة الأمر الواقع، وذلك من خلال حلّ البرلمان، عبر "استقالة جماعية" منه.
ولكن، هل مثل هذا الخيار مطروح فعلاً على الطاولة؟ وبمُعزَلٍ عن موقف "التيار"، الذي تشير المعلومات إلى أنّه ليس متحمّسًا أصلاً للانتخابات المبكرة في ظلّ المعطيات الحالية، فهل تكفي استقالة نوابه فعليًا لفرضه؟ ووفقًا لأيّ معايير يصحّ ذلك؟!
"آخر الدواء الكيّ"
بعد الجلسة البرلمانية الأخيرة التي ناقشت رسالة رئيس الجمهورية حول أسباب التأخّر في تأليف الحكومة، أيقن "التيار" أنّ سحب التكليف "بعيد المنال" بالاجتهادات الدستورية، خصوصًا في ضوء "حروب الصلاحيات" التي تقفز إلى الواجهة، وتتداخل معها "حقوق الطوائف"، كلما أثيرت مسألة إشكاليّة، ولو كانت من "البديهيّات"، كما هو حاصل الآن لجهة قدرة رئيس حكومة مكلّف على الاحتماء بالدستور لاحتجاز ورقة التكليف في جيبه إلى ما شاء الله.
أكثر ما يخشاه "التيار"، كما أصبح واضحًا، هو أن يتحقّق ما يلوّح به البعض، على طريقة "النكايات"، من أنّ رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، يستطيع الاحتفاظ بورقة التكليف حتى اليوم الأخير من "العهد"، إذا لم يقبل الأخير بما يريد أن يمليه عليه، وإلا يبقى بلا حكومة حتى اليوم الأخير من الولاية الرئاسية، بما ينسف كلّ الآمال بتعويض ما فات، وتحقيق بعض الإنجازات ليذكرها التاريخ، رغم كلّ المعوّقات والصعوبات.
لذلك، يدرس البعض في "التيار" فكرة الاستقالة الجماعية من البرلمان، عملاً بمبدأ أنّ "آخر الدواء الكيّ"، وإذا لم يكن هناك من طريقة أخرى للقفز فوق "تكليف" الحريري رئاسة الحكومة، خصوصًا أنّ هناك في صفوف "العونيّين" من بات مقتنعًا أنّ "المساكنة" بين عون وباسيل من جهة، والحريري من جهة ثانية، باتت "مستحيلة"، حتى لو نجحت الوساطات في كسر الجليد في مكانٍ ما، أو تمّ التوصّل إلى توافق قد يكون من الصعب ترجمته إلى تفاهم يمكنه الصمود في وجه "الأعاصير" الآتية.
واستنادًا إلى ما سبق، بدأت فكرة الاستقالة الجماعيّة تأخذ منحىً جدّيًا في بعض الأوساط "العونيّة"، وقد تصبح بمثابة "أمر واقع"، بعد "استنفاد" الفرصة الأخيرة التي منحها برّي لمبادرته، وإذا ما تبيّن انضمامها إلى سائر الوساطات التي جُرّبت وأخفقت في إحداث أيّ "خرق"، رغم "التحفّظات" الكثيرة عليها، والتي كان الوزير جبران باسيل عبّر عنها في إطلالاته الأخيرة، باعتبار أنّ الانتخابات في هذه المرحلة من شأنها "تعقيد" الأزمة أكثر ممّا هي "معقّدة"، كما أنّ البلاد غير جاهزة لخوض غمارها.
استقالة "التيار" لا تكفي؟!
يوحي خطاب "التيار الوطني الحر" أنّ مفتاح "حلّ البرلمان" في جيبه، وأنّ استقالة "جماعية" لنوابه تقود حتمًا إلى انتخابات نيابيّة مبكرة، تؤدي تلقائيًا إلى "سحب التكليف" من يد سعد الحريري. لكنّ هذا "السيناريو" قد يكون بعيد المنال، وفق ما يؤكد خبراء قانونيون ودستوريون، يجزمون أنّ استقالة نواب "التيار" لن تؤدي سوى لخسارتهم مقاعدهم النيابية، من دون أن يصبح البرلمان بالضرورة بحكم "المُنحَلّ".
لـ"التيار" أسبابه الموجبة للاعتقاد بأنّ الاستقالة الجماعية تنفع، وأولها أنّ "القوات اللبنانية" تنتظر منه أن يخطو هذه الخطوة لتسبقه إليها، هي التي تطالب بانتخابات مبكرة منذ ثورة السابع عشر من تشرين، وستعتبر استقالة "التيار" الفرصة "الذهبيّة"، بعدما حاولت سابقًا أن تقنع "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" باتباع هذا المسار، من دون أن تفلح أو تنجح.
هنا، يمكن الحديث عن زاويتين، وفقًا للخبراء، أولهما دستوريّة عدديّة، تشير إلى أنّ استقالة نواب "التيار" و"القوات" معًا لا تكفي لحلّ البرلمان. أما الثانية، فبدعة لبنانية عنوانها "الميثاقية" التي لا شكّ سيفتقدها البرلمان بخسارته نواب الكتلتين المسيحيتين الأكبر، خصوصًا أنّ بعض المناطق ستصبح بلا نواب ممثلين لها، إلا أنّ ذلك يمكن "حلّه" بكلّ بساطة بانتخابات فرعيّة.
ويرى كثيرون أنّ فكرة "الميثاقية" هذه، وإن صحّت، لا قوة قانونيّة فعليّة لها، علمًا أنّ هناك من يتّهم "التيار" نفسه بضربها في الصميم، عندما سمّى حسّان دياب رئيسًا للحكومة، رغم وقوف المكوّن السنّي، باستثناء "اللقاء التشاوري"، في مواجهته، وهو ما اعتبر "التيار" أنّه ليس ذي قيمة، باعتبار أنّ الدستور واضح، ونصوصه أكثر من صريحة.
من كلّ ما تقدّم، يتّضح أنّ الانتخابات المبكرة، كما تأليف الحكومة، لا بدّ أن تمرّ بطريق واحدة لا غنى عنها، وهي طريق "التوافق السياسي"، فتمامًا كما أنّ لا حكومة إذا لم يتفاهم الأطراف المتخاصمون على برنامجها وتركيبتها، فإنّ لا انتخابات أيضًا بقوّة الأمر الواقع، ومن دون توافق، علمًا أنّ ثنائيّ "حزب الله" و"حركة أمل" يقف لها بالمرصاد، وفق ما تؤكده المعطيات والتسريبات المتوافرة.
"ملهاة" للرأي العام!
بعيدًا عن المعطيات القانونية والدستورية، والثقل الذي تنطوي عليه "بدعة" الميثاقية، ثمّة من يؤكد أنّ المشكلة الحقيقية تكمن في "النفوس"، وتحديدًا في "النوايا المبيّتة".
في هذا السياق، يبدو كلّ النقاش حول الانتخابات المبكرة مجرّد "مَلهاة" ليس إلا، لأنّ أحدًا ليس في وارد الذهاب إليها، أو يريدها، في الوقت الحاليّ، وما طريقة التعاطي مع الانتخابات الفرعيّة المُلزِمة قانونيًا، وتجاهلها بكلّ بساطة، سوى الدليل الساطع على ذلك.
أكثر من ذلك، يؤكّد العارفون أنّ النقاش الحقيقي هو حول "تأجيل" الانتخابات العامة الدورية، التي ينبغي أن يحين موعدها العام المقبل، ما يعني أنّ الانتخابات المبكرة التي تُطرَح اليوم ليست سوى مادة "ابتزاز" يسعى البعض لتوظيفها سياسيًا، لتحقيق بعض المكاسب الآنيّة.
لا حكومة ولا انتخابات ولا من يحزنون إذًا، فما يهمّ الطبقة السياسيّة ليس سوى "تقاسم المغانم" في نهجٍ يبدو أنّه مستمرّ، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا!