منذ تفعيل رئيس مجلس النواب نبيه بري "مبادرته" لمحاولة تقريب وجهات النظر بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، سادت أجواء "تفاؤل" مشوبة بـ"الحذر" في البلاد، بإمكانيّة تحقيق "خرق" يمكن أن يفضي إلى ولادة الحكومة.
استند "التفاؤل"، في حيّزٍ كبيرٍ منه، إلى أنّ بري ما كان ليتحرّك بهذا الشكل، لو لم يكن قد حصل على "ضمانات مسبقة" بنجاح مسعاه، خصوصًا أنّه كان قد "جمّد" مبادرته لأشهرٍ طويلة في السابق، لا لشيء إلا لإدراكه بـ"استحالة" عبورها بين "الألغام" السياسيّة، على كثرتها.
أما "الحَذَر"، فاستند إلى التجارب السابقة منذ تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة وحتى اليوم، حيث غُلِّفت بمعظمها بـ"إيجابية" سرعان ما تبيّن أنّها "وهميّة"، بل "مزيَّفة"، كانت تنتهي دومًا إلى "تعقيد" الأزمة أكثر من خلال "تعميق" الشرخ بين ركنيها الأساسيّين، عون والحريري.
ولعلّ السجال "الناريّ" المتجدّد الذي خلُص إليه الحراك المكثَّف الذي انطلق من عين التينة في اليومين الماضيين يغلّب النظرة "السلبيّة"، رغم ما قيل عن أجواء إيجابية تمخّضت عن اجتماع بري والحريري، وكان ينبغي أن تُعمَّم بعد ذلك، قبل أن يحصل العكس.
فكيف حصل ما حصل، ولماذا "انقلبت" الأجواء فجأة من إيجابية وورديّة إلى سلبيّة ومُظلِمة، شُرّعت معها أقسى الأوصاف والنعوت؟ وهل التحقت مبادرة برّي بسابقاتها، وباتت بكلّ بساطة "في خبر كان"؟!
بيان الحريري "خارج السياق"؟!
على جري العادة، وتوازيًا مع كلّ جهدٍ يُبذَل لترطيب الأجواء الحكوميّة، إن جاز التعبير، تنشب "حرب كلاميّة" بين مختلف الأطراف، قد يكون هدفها محمودًا، من حيث "التغطية" على "التنازلات" التي تُقدَّم، ومنع تصويرها على أنّها "هزيمة"، وقد يكون هدفها على النقيض، "الانقضاض" على التسوية المفترضة، وتبديد أيّ آمالٍ بنجاحها.
ولعلّ بيان تيار "المستقبل" الذي صدر مساء الأربعاء، في إطار الردّ على كلام رئيس تكتل "لبنان القوي" الوزير السابق جبران باسيل، يغلّب الفرضيّة الثانية، إذ إنّه أتى هجوميًّا وقاسيًا بشكلٍ وصفه بعض حلفاء الحريري والداعمين له، قبل الخصوم، بـ"المُبالَغ به"، علمًا أنّه أتبِع بحملةٍ إلكترونيّة واسعة ضدّ الرئيس عون و"العهد"، الذي وصفه المغرّدون، وبينهم قياديّون من الصف الأول في التيار "الأزرق"، ومن أقرب المقرّبين من الحريري، بـ"عهد جهنّم".
وفيما يعزو "المستقبليّون" أسلوب البيان وتبعاته إلى كلام الوزير باسيل، الذي حمل مؤتمره الصحافي "تهويلاً" في ذروة المساعي النشطة، يردّ "العونيّون" باستغراب مثل هذا الاتهام، خصوصًا أنّ كلام باسيل، وإن فتح النقاش حول "الخيارات الممكنة"، إلا أنّه انطوى على إيجابية قد لا تكون مسبوقة، سواء بتأكيده على الرغبة بحكومةٍ يرأسها الحريري شخصيًا، أو على التعهد بتسهيل أيّ فرصة للحلّ وعدم التشويش عليها.
لكنّ بيان "المستقبل"، برأي "العونيّين"، جاء ليؤكد المؤكّد بالنسبة إليهم، وهو أنّ الحريري، المفتقد للمظلّة العربيّة والدوليّة، في ظلّ تمسّك السعودية خصوصًا بسياسة التجاهل، أو بمعنى أدقّ "التطنيش" إزاءه، لا يريد، أو ربما، لا يستطيع تشكيل الحكومة، وهو لذلك يعمل على "إفشال" كلّ مسعى توفيقيّ، لدرجة "رفضه المسبق" للحوار حول سبُل معالجة الأزمة، واعتباره "مصادرة للصلاحيّات"، في خطابٍ ما عاد ينطلي على أحد، على حدّ تعبير هذا الفريق.
بري "لم يستسلم"؟
يردّ "المستقبليّون" على الرواية "العونيّة" بالدعوة إلى قراءة ما بين "أسطر" كلام باسيل في مؤتمره الصحافي الأخير، وهو الذي يصفونه بـ"الخبيث" في أكثر من معطى، إذ إنّ الرجل يقول إنّه يريد تسهيل التأليف، لكنّه يتمسّك برفض إعطاء الحريري "حقّه الدستوريّ" بتسمية الوزراء في حكومته، مقلّصًا بذلك حصّته الوزاريّة مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" إلى ستّ حقائب فقط، رغم الاتفاق على صيغة "8-8-8" وفقًا لكلّ التسريبات.
وفيما يستغرب "المستقبليّون" كيف تكون حصّة رئيس الجمهورية من ثماني وزارات، في المقابل، في "سابقة" من نوعها، طالما أنّ باسيل يزعم في كلّ إطلالاته أنّه لا يريد حصّة لتيّاره، في حين أنّ الرؤساء السابقين كانوا يحصلون على حصّة من ثلاث حقائب بالحدّ الأدنى، كان عون يبدي "رفضه القاطع" لها بالمناسبة، يشدّدون على أنّ الإشكاليّة تبقى في قول باسيل إنّه يريد حكومة برئاسة الحريري، في وقتٍ يطرح النقاش حول خيارات "الانقضاض" على الحريري، في مفارقةٍ تستوجب التوقّف عندها.
في النتيجة، وبمُعزَلٍ عن كلّ النقاشات الممِلّة، حول "جنس الملائكة"، ومن يتحمّل المسؤولية الحقيقيّة في إفشال الوساطات المتعاقبة، ثمّة من يعتقد أنّ مبادرة برّي أضحت، بنتيجة كلّ ما سبق، "في خبر كان"، بعدما أظهرت الردود والردود المضادة أنّ المشكلة الفعليّة لا تزال "مبدئيّة"، وهي تتعلق باستحالة "المساكنة" بين الحريري من جهة، وعون وباسيل من جهة ثانية، بل إنّ أيّ حكومة يمكن أن تُشكَّل "بالموْنة"، في ظلّ هذه المعطيات، ستكون محكومة بالفشل، نظرًا لطبيعة العلاقة "المعقّدة" بين الجانبين.
وإذا كان بري، وفق ما نقل بعض زواره في الساعات الماضية، بدا "أقلّ ارتياحًا" لمسار الأمور، بعدما كان سرّب أجواء "إيجابية" بعيد لقائه مع الحريري، فإنّ هناك من يؤكد أنّه لم يستسلم بعد، وأنّ إمكانية الوصول إلى حلّ تبقى "ممكنة"، استنادًا إلى رسائل "فرديّة" تلقاها من الطرفين بـ"التجاوب" مع مساعيه، رغم كلّ الضجيج، إلا أنّ المهلة لتحقيق نتائج لن تكون "مفتوحة"، إذ إنّ "الأستاذ" ألزم نفسه بمهلة قصيرة، قد لا تتجاوز نهاية الأسبوع الحاليّ.
"مسألة وقت"
يبدو المشهد مكرَّرًا، بل "مُستنسَخًا". تظهر "إيجابية" على وقع الحراك الحكوميّ المستجدّ والمكثّف، وسرعان ما "تنقلب" الأمور رأسًا على عقب، فتتحوّل إلى "سلبيّة" بالمُطلَق، تفوق ما كانت عليه قبل الوساطات والمبادرات.
هذا ما أوحت به على الأقلّ المواقف المُعلَنة والحملات المباشرة والافتراضيّة التي انتشرت كالنار في الهشيم، لتؤكد المؤكد وتثبّت المثبّت: لا إرادة حقيقية بتشكيل الحكومة، والأزمة مستمرّة على ما يبدو إلى ما شاء الله.
قيل إنّ مبادرة بري هي "الفرصة الأخيرة"، وربما قيلت أمور مشابهة عن مبادرات ووساطات أخرى، ويُقال اليوم إنّ المبادرة لم تسقط بعد، لا سيما وأنّ مساعي "الاحتواء" قد بدأت، وأنّ الجهود تتضافر بشكلٍ أو بآخر لإنجاحها.
لكن، يُقال أيضًا إنّ سقوط المبادرة "مسألة وقت" ليس إلا، لأنّ الواضح أنّ لا نيّة حقيقيّة بتقديم التنازلات المتبادلة، في خشية تتفاقم يومًا بعد يوم، من "السقوط الأكبر" الذي بات الوطن يعيشه، وقد صُنِّف اقتصاده رسميًا من بين "الأسوأ" عالميًا!