. في كلام غير مسبوق على لسان مسؤول “إسرائيلي” أعلن نتنياهو أنّ “إسرائيل” لو وُضعت أمام خيار “الحفاظ على علاقتها بأميركا” الحليف الاستراتيجي الأوّل لها في العالم، وبين “معالجة تهديد وجود” كالذي تشكله إيران من باب الموضوع النوويّ، لاختارت الثاني بدون تردّد.
كلام جاء وبدون شك لينذر بنية واضحة لدى نتنياهو بالذهاب إلى الحرب على إيران بقرار “إسرائيلي” منفرد ودون التوقف عند النصح أو الأمر الأميركي المانع لهذه الحرب، ولا مبرّر لهذا القرار “الإسرائيلي” الحربي، إذا شئنا تحليله الآن وفهمه موضوعياً، إلا مصالح شخصية خاصة وليست مصلحة “إسرائيل”، إنها مصالح نتنياهو الذي بات يعيش الخيبتين بعد الانتخابات النيابية الأخيرة وبعد عملية “سيف القدس”: “الخيبة السياسية” المتمثلة بعجزه عن تشكيل الحكومة وعجزه بالتالي عن الاحتفاظ بموقع رئيس الحكومة الذي يحصّنه ويحول دون سوْقه إلى السجن مقتفياً طريق أولمرت بعد العام 2006 وهزيمته فيها على يد المقاومة في لبنان، و”خيبة عسكرية ميدانية” تمثلت بعجز الجيش “الإسرائيلي” عن احتواء التهديد الذي شكلته المقاومة الفلسطينية التي نجحت في عملية “سيف القدس” في إرساء قواعد اشتباك جديدة وفرضت معادلات استراتيجية على “إسرائيل” التي جهدت في الابتعاد عنها.
وبالتالي فإنّ نتنياهو وهرباً من خيبتيه، أو معالجة لهما وقفزاً فوقهما يرى أنّ الحلّ يكمن في فتح الجبهة الخامسة، وهي الجبهة مع إيران (وفقاً لآخر تقسيم لجبهات القتال “الإسرائيلية” التي هي جبهة الشمال وجبهة الجنوب ثم جبهة نهر الأردن في الشرق وأضيفت إليها الجبهة الداخلية واليوم تضاف الجبهة الخامسة وتسمّى جبهة العمق أو الجبهة الجيوفضائية أو الجبهة الجوية وفقاً لمصطلحات مراكز الأبحاث الإسرائيليّة) ويرى نتنياهو أنّ الحرب على هذه الجبهة من شأنها أولاً أن تقطع الطريق على بايدن وتمنعه من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ثم ستجبر أميركا على الدخول في الحرب حماية لـ “إسرائيل” عملاً بالاتفاقات والتفاهمات الاستراتيجية التي تضمن وجودها وأمنها، وتفسد على أميركا بذلك قرارها بالتخفيف أو بترك المنطقة والانزياح إلى الشرق الأقصى.
أما المهلة المتاحة لنتنياهو لتنفيذ مغامرته فليست طويلة وهي تكاد تكون مقتصرة على الأيام المعدودة التي تتطلبها “حكومة التغيير الإسرائيلي” بزعامة لبيد وبينت للحصول على ثقة الكنيست، باعتبار أنّ نتنياهو يستمرّ رئيساً للحكومة كامل الصلاحية حتى تأخذ الحكومة الجديدة الثقة وتصبح هي صاحبة الصلاحية في الحكم (وهو تدبير منطقي خلافاً لما هو عليه الحال في لبنان حيث تحكم الحكومة قبل الثقة وتستمرّ في تصريف الأعمال حتى لو لم تنل الثقة من المجلس)، وفرصة نتنياهو كما هو واضح لا تتجاوز الأسبوعين إن حصلت الحكومة الجديدة على الثقة، وقد تمدّد لأشهر بين 3 و 4 إنْ فشلت الحكومة في الحصول على الثقة وذهبت الكنيست إلى انتخابات مبكرة خامسة.
إذن مهلة نتنياهو لتنفيذ مغامرته بالعدوان على إيران وجرّ المنطقة إلى حرب شاملة تستدرج أميركا إليها كما يخطّط، هي مهلة تمتدّ من أسبوعين على الأقلّ إلى 4 أشهر على الأكثر ستكون فيها الحرب خياراً محتملاً وستكون المنطقة التي لم تتعافَ بعد من الحرب الكونية التي شنّها الغرب بقيادة أميركا وحلفائها وأتباعها على سورية ومحور المقاومة، الحرب التي رغم هزيمة المعتدي فيها، فإنها مستمرة بأشكال شتى فيها العسكري الميداني والاحتلالات وفيها السياسي والعزل والتضييق وفيها الاقتصادي خاصة الحرب والإرهاب الاقتصادي والحصار.
وهنا ومع هذا المشهد المعقد، ونيات الاستدراج إلى الحرب والانزلاق اليها يطرح السؤال “إذا كان نتنياهو يريد الحرب لإنقاذ نفسه من السجن، فهل بإمكانه أن ينجح في خطّته ويستدرج المنطقة بكلّ مكوّناتها إلى تلك الحرب؟
يوصف نتنياهو في مجتمعه بأنه شخص شديد الولع والعمل بمنهج “ميكيافيللي” وهو يفاخر بكونه يسعى إلى تحقيق غايته بصرف النظر عن دناءة الوسيلة أو خسّتها أو خطورة اللجوء اليها، وانطلاقاً من هذا الوصف ونظراً إلى أنّ من مصلحة نتنياهو كما يراها للتفلت من المحاسبة والسجن وعدم الخروج من الحياة السياسية لا بل والحياة العامة، فإنّ هذه المصلحة تقضي بشنّ الحرب على إيران باعتبار الحرب هي السبيل الوحيد المتبقي له لمعالجة خيبتيه، فإنّ مراقبين “إسرائيليين” يحذرون من الحرب التي باتت بالنسبة إليهم أمراً واقعاً والمسألة متى تبدأ عملياتها الأولى.
أما رأينا، وكذلك موقف خبراء آخرين في الغرب كما ولدى كيان العدو، فإنه يتجه في اتجاه آخر مع وجوب المحافظة على درجة من الحذر لأنّ القاعدة دائماً هي أنّ “الاحتياط واجب”، وأننا نرى أنّ نتنياهو لن يكون بمقدوره أخذ “إسرائيل” وتالياً أميركا إلى حرب على إيران للأسباب التالية:
1 ـ وجود غانتس في الحكومة وفي مجلس الوزراء المصغر، ولكونه في موقعه هذا هو شريك كامل في القرار الاستراتيجي في إعلان الحرب، كما أنه لا يزال يشغل منصب وزير الحرب الإسرائيلي (وزير الأمن) والذي يشكل حلقة الوصل بين المستوى السياسي والمستوى العسكري لدى الكيان. وغانتس وهو الضابط السابق العليم بقدرات الجيش “الإسرائيلي” واستعداداته، والوثيق الصلة بالحكم الجديد في أميركا يرى أنّ الحرب الآن في غير مصلحة “إسرائيل” لذلك يرفضها ويعارض بشدة الذهاب اليها. ولذلك وجدنا كيف أنّ أميركا لعبت ورقة غانتس بدعوته إليها لمناقشة الموضوع على عجل، والنتيجة معروفة سلفاً أيّ رفضاً لقرار الحرب.
2 ـ تخلف جهوزية الجيش “الإسرائيلي” وعدم توفر الوقت المناسب لمعالجة الثغرات التي اكتشفت في بنيته العسكرية عامة والدفاعيّة خاصة، تلك الثغرات التي كشفتها عملية “سيف القدس”، ومن المعروف أنّ الجيش “الإسرائيلي” لا يذهب إلى الحرب إلا بقرار سياسيّ، لكن القرار السياسي لا يفرض عليه حرباً إذا أعلن عدم جهوزيته اليها.
3 ـ جهوزية محور المقاومة لتحويل الحرب المحدودة إلى حرب شاملة لا تتوقف إلا بعد تغيير وجه المنطقة، وهذا ما يخشاه الغرب عامة وأميركا خاصة، وبالتالي فإنّ الجهود الغربية وانطلاقاً من ذلك ستكون منصبّة وبصدق هذه المرة على منع الحرب، أما إذا فلت صاروخ بيد نتنياهو ليعلن بدأها فإنّ الجهود ستكون منصبّة على وقفها وبأسرع ما يمكن لأنّ التغيير الدراماتيكي الاستراتيجي العام بمنظور الغرب لم يحِن أوانه في الشرق الأوسط بعد.