يكاد الجميع يسلّم بالأمر الواقع: تشكيل حكومة وفق مقتضيات المبادرة الفرنسية، وعلى قاعدة "اختصاصيّين غير حزبيّين"، أصبح "سابع المستحيلات"، خصوصًا بعد فشل وساطة رئيس مجلس النواب نبيه بري، التي وُصِفت بـ"الفرصة الأخيرة"، في إحداث أيّ "خرق".
من هنا، بدأ في عزّ الحديث عن "إيجابية مزيّفة" على وقع مبادرة بري، البحث جديًا بـ"البدائل"، أو الخيارات الممكنة لتمرير المرحلة "بالتي هي أحسن"، إن جاز التعبير، أو بالحدّ الأدنى، لملء "الوقت الضائع" بانتظار نضوج الظروف التي تفسح المجال أمام التغيير المنشود.
من هذه الخيارات، ما طرحه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل في مؤتمره الصحافي هذا الأسبوع، لجهة الدعوة إلى "حوار وطنيّ رئاسيّ" في قصر بعبدا، يتولى البحث في "جذور" الأزمة وأسبابها العميقة، تمهيدًا لتحديد سُبُل علاجها.
من الأفكار أيضًا، الذهاب إلى خيار الانتخابات، وقد أوحى التصعيد السياسي بدخول زمنها، وربطًا بها، ثمّة من بدأ الحديث عن "حكومة انتخابات" يمكن تشكيلها، برئاسة شخصية "وسطية"، وإلا فـ"حكومة أقطاب" كان البطريرك الماروني بشارة الراعي أول من أثارها!.
"لا حياة لمن تنادي"
لا يُعتقَد أنّ فكرة الحوار الوطني لمعالجة الأزمة السياسيّة المستجدّة بفعل المأزق الحكوميّ المتمادي وليدة الساعة، ولو أخرجها الوزير السابق جبران باسيل إلى الضوء، مجاهرًا بها في مؤتمره الصحافي الأخير، بعدما كثُرت التسريبات بشأنها في الأسابيع الأخيرة.
ثمّة من يقول إنّ الفكرة خرجت، بادئ ذي بدء، من عين التينة، حيث أرادها رئيس مجلس النواب نبيه بري بمثابة "داعمة" لمبادرته الحكوميّة، لكنّ "التيار الوطني الحر" لم يكن مرحِّبًا وتصدّى لها بكلّ قوة، لاعتقاده بأنّ رئيس الجمهورية هو من يفترض به أن يدعو للحوار، وفق ما درجت عليه العادة في السنوات الأخيرة.
لكن، وبمُعزَلٍ عمّن يكون صاحب الفكرة، وبالتالي "الرعاية"، في ظلّ علامات استفهام تُطرَح عن موقع كلّ من عون وبري، غير "المحايدين" برأي كثيرين، فإنّ فكرة الحوار تثير الكثير من التساؤلات، خصوصًا بعد التجارب الكثيرة "غير المشجّعة" منذ أيام الرئيس السابق ميشال سليمان، حيث بقيت مقرّرات جلسات الحوار "حبرًا على ورق" في أفضل الأحوال.
ولعلّ ما أثارته الفكرة من استعادة "حرب الصلاحيّات" جاء ليعقّد الأزمة أكثر بدل تسهيلها، بدليل البيان "الناريّ" الذي خرج عن تيار "المستقبل"، والذي يعتقد "العونيّون" أنّه كان مُبالَغًا به، بل "شعبويًا"، لا سيّما وأنّ باسيل كان واضحًا أنّ المطلوب من طاولة الحوار ليس تأليف الحكومة نيابةً عن رئيس الوزراء المكلّف، بل تحضير "الأرضيّة"، وتسهيل المهمّة عليه.
في المقابل، لا يتردّد خصوم "التيار" في التصويب على الفكرة-البدعة، كما يصفونها، أولاً لأنّ عون "طرف" في الأزمة، ولا يمكنه أن يرعى الحوار، وثانيًا لأنّ المقصود من الحوار ليس سوى "جمع" باسيل والحريري، بعد إصرار الأخير على رفض أيّ اجتماع معه، وثالثًا، وهو الأهمّ، لأنّ الدستور واضح، فتأليف الحكومة مهمّة رئيس الوزراء، بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، من دون أيّ شريك آخر، حتى لو كان "رئيس ظلّ"، على حدّ تعبيرهم.
الحلّ بالانتخابات؟!
على طريقة "لا حياة لمن تنادي"، يبدو أنّ فكرة الحوار أسقِطت بالضربة القاضية من اللحظة الأولى، حتى أنّ هناك من يعتقد أنّ إصرار الفريق "الرئاسيّ" على الدعوة للحوار قد ينقلب عليه، بحيث يتحوّل الحوار إلى جلسة "دردشة" بين "رفاق الصفّ الواحد"، في "استنساخٍ" لمشهد الحوار الاقتصادي الاجتماعي، الذي قوبل بـ"مقاطعة" سياسيّة واسعة.
من هنا، بدأ البحث بخياراتٍ أخرى على الطاولة، من بينها الذهاب إلى الانتخابات، وفق قاعدة "آخر الدواء الكيّ"، كما يردّد المحسوبون على "التيار الوطني الحر"، وباعتبارها الطريقة الوحيدة لـ"سحب التكليف" من رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري، بعدما ثبُت بالوجه الشرعيّ والملموس أنّ "المساكنة" بين الأخير من جهة، وعون وباسيل من جهة ثانية، شبه مستحيلة.
لكنّ عقباتٍ عدّة لا تزال تحول دون هذه الانتخابات، التي يريدها البعض "مبكرة"، أولاً لأنّ "لا تفاهم" حقيقيًا بشأنها، ما يعني أنّ أيّ خطوةٍ، ولو أفقدت البرلمان "ميثاقيّته"، قد لا تحقّق الأهداف المنشودة، في حال لم يتمّ "تنسيقها" مع القوى الأساسية الأخرى، ولا سيما "الثنائي الشيعي"، الذي لا تزال مصادره تؤكد رفض فكرة الانتخابات باعتبار أنّ التوقيت غير ملائم لها، وأضرارها قد تفوق منافعها.
وحتى لو تمّ التفاهم على الانتخابات، ثمّة من يعتقد أنّ التحضير لها سيستغرق وقتًا، ما يتطلّب تشكيل حكومة "أصيلة" تتصدّى للمهمّة في الفترة "الانتقالية"، التي قد لا تخلو من الاستحقاقات الصعبة، بل المَريرة، على وقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وما يُحكى عن رفع دعم، وسياسات غير شعبيّة بالجملة ستصبح "أمرًا واقعًا" في الأسابيع المقبلة.
من هنا، تُطرَح في الكواليس السياسية صيغتان حكوميتان مختلفتان، الأولى "حكومة انتخابات" برئاسة أحد غير المرشحين للانتخابات، على طريقة حكومة نجيب ميقاتي في العام 2005، أو "حكومة أقطاب" طرحها البطريرك الراعي قبل يومين في قصر بعبدا. إلا أنّ "التوافق" على أيّ من الفكرتين لم يتمّ بعد، ما "ينسفهما" من أساسهما، طالما أنّ "شرطهما" الأساسي توافق عريض، ينبثق عنه "اعتذار" الحريري عن استكمال مهمّته.
"جنون ما بعده جنون"!
لا حكومة، ولا اعتذار، ولا انتخابات، ولا من يحزنون. قد تكون هذه هي المعادلة القائمة هذه الأيام في البلاد، فالحكومة أصبحت "في خبر كان"، بعدما سقطت، أو أسقِطت، كلّ المبادرات بالضربة القاضية، ومن دون أن يرفّ جفن للمعرقلين.
في المقابل، لا اعتذار على ما يبدو أيضًا، فرئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري يرفض تقديم ما يعتبرها "هدية مجانية" لـ"العهد"، طالما أنّه يعتقد أنّ "ورقة التكليف" هي نقطة قوّة يستطيع من خلالها مواجهة التحديات، الداخلية منها ولكن أيضًا الإقليمية.
لا انتخابات أيضًا، رغم كلّ ما يُحكى بخلاف ذلك، بل إنّ ثمّة شريحة واسعة تعتقد أنّ البحث يتمّ على كيفية "تطيير" الانتخابات العادية في العام المقبل، لأسباب كثيرة، من بينها أنّ أحدًا من القوى السياسية التقليدية ليس "جاهزًا" لاستفتاء الناس في ظلّ الواقع الحاليّ.
أما النتيجة، فيبدو أنّها "الفوضى"، ولا شيء سوى الفوضى، التي يُعتقد أنّها "ستتمدّد" أكثر فأكثر في القادم من الأيام، في مشهدٍ قد يصحّ وصفه بـ"الجنون"، الذي لا يدرك أحد تبعاته وتداعياته "الكارثيّة" على البلاد!.