سألَ أُستاذُ فيزياء تَلاميذَه في إحدى الحِصَصِ الدِّراسيّة: مَا هُو النُّور؟ ومِن أروَعِ الأجوبَةِ الّتي حَصلَ عَليها كان مِن تِلميذٍ والِدُهُ ضَرير، إذ أجابَ مُتحمِّسًا: "يا أُستاذ، النُّورُ هو ما يَراهُ الإنسانُ"، وتابَعَ، "نَحن لا نَرى النُّورَ بحَدِّ ذاتِه، لكنّ وجودَهُ يَجعَلُنا نَرى كُلَّ الموجودات. فعندما أُشاهِدُكَ أكونُ في النُّور، وإلّا، أكونُ في الظَّلام. فبِدُونِ النُّورِ لا يُمكِنُنا مُشاهَدَةُ بَعضِنا بعضًا".
لا نَعرفُ إذا كان التّلميذُ ذاكَ قد أدرَكَ أنَّ الجُملةَ الأخيرَةَ مِن جَوابِهِ جعلَتهُ يُحَلَّقُ في اللّاهوتِ: "بِدُونِ النُّورِ لا يُمكِنُنا مُشاهدَةُ بعضِنا بعضًا".
فمُشاهَدَةُ الآخَرِ، بِالمَفهُومِ الإلَهيّ، لا تَعني أن نَراهُ فِيزيائيًّا، بل أن نَشعُرَ بِوجودِهِ وبِكيانِهِ وبِمشاعِرِه، ما يُفرِحُهُ وما يُؤلِمُه، وهذا يَعني أن أرى المَسيحَ في الآخَر، لأنّه، مثلي، أيقونةٌ للرَّبِّ القُدُّوس.
وأردَفَ التّلميذُ، وقد تغَيّرَ صوتُهُ لِشِدَّةِ تأثُّرِه، إذ كانَ يُخبِرُ بِكُلِّ صِدقٍ: "أبي ضَريرٌ ولَكِنَّهُ يَراني. هو يَعرِفُ كُلَّ تفصِيلٍ فيّ. كيفَ أسيرُ، ماذا أَفعَلُ، ما أرتديه. ويُلاحِظُ أيضًا كُلَّ تغييرٍ فيّ".
وكانَت كَلِماتُهُ نابِعةً مِنَ القَلبِ، فسادَ الصَّمتُ بين الطُّلاب، وانهَمرَتِ الدُّموعُ مِن عينَي الأستَاذِ وهو يُنصِتُ بِفَرَح.
وقد لاحَظَ الجَميعُ أنَّ التِّلميذَ كانَ يتكَلَّمُ وعيناهُ مغمَضتان، كأنَّه في مَكانٍ آخَر.
ما وصَفَهُ كان حقًا كلامًا مِن نُور. كان يتكلَّمُ على نُورِ البَصيرَةِ ونُورِ المَحبَّة. هكذا خَلَقَنا اللهُ نُورانِيّينَ، لأنَّ إلهَنا نورٌ مِن نُور، والظُّلمَةُ دَخيلَةٌ عَلينا.
وعِندما نَستَعيدُ صُورتَنا النُّورانِيَّةَ، تنفَتِحُ بَصيرَةُ قلبِنا ورُوحِنا، ويزولُ العَمى الدَّاخليّ لدينا، وهو أخطرُ بِأشواطٍ مِنَ العَمى الخارِجيّ.
فما نَفعُ الإنسانِ إذا كان يرى بِعَضَلَتَي عينَيهِ فقط، بينَما قلبُه مُظلِمٌ ومشاعِرُه مَيتة ٌ، وحِسُّه الإنسانِيُّ مَعدُوم؟ هل سيتمكَّنُ حينَها مِن أن يرى أعمالَ اللهِ ويَمجِّدَه؟ هذا أمرٌ مستحيل.
هذا تمامًا ما تُخبِرُنا بهِ الكَنيسةُ في إنجيلِ هذا الأحدِ الّذي هو أحدُ الأعمى، حينَ تَفَلَ يَسوعُ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى، لأنّه وُلِدَ مِن دون مُقلَتَين. وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: مُرْسَلٌ، فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا(يوحنا ٩).
جَبْلُ الطِّينِ يُذَكِّرُنا بِخَلقِ أدَمَ، كيف لا والرَّبُّ يسوعُ المسيحُ هو نفسُهُ الخالِقُ، كما يُذَكِّرُنا اغتِسالُهُ في البِركَةِ بِمياهِ المعمُودِيَّةِ الّتي نَخرُجُ مِنها خَليقَةً جَديدَة.
ويخبر الإنجيل أن بعد الشفاء استدعى كبارُ الكَهَنةِ الأعمى، وهم غيرُ مُصَدِّقينَ ما حَدَث. كذلك استَدعَوا أهلَهُ ليتَأَكّدُوا أّنّه وُلِدَ أعمًى، ومَعَ ذلكَ بَقُوا غيرَ مُصَدِّقِين.
هو انفتَحت بَصيرتُهُ على المُخلِّصِ، أمّا هُم فأغلَقُوا سَتائِرَ قُلوبِهم عَازِلينَ أنفُسَهم عنِ النُّورِ الحَقيقيّ.
هُوَ جاهَرَ بأنَّ الذي شَفاهُ هوُ المَسيحُ المُنتَظَرُ لا محالة، وهُم كَشَّروا عن أنيابِهِم، رافِضينَ النِّعمةَ الإلهيَّةَ وتَحقيقَ الوَعدِ، وإتمامَ نُبوءَاتِ العَهدِ القَديم بِمَجيءِ المُخَلِّص.
لِماذا؟ بِكُلِّ بَساطَةٍ، لأنَّهم كانوا يَعبُدونَ ذَواتِهم، فجاءت مَحبَّةُ المَسيحِ وعرَّتهُم، وكَشَفَت تَحَجُّرَهم. فخَافوا مِنهُ على سلطَتِهم وارتَعَدُوا.
فَلَو كانَت سُلطتُهم مُطابِقَةً لِعَمَلِ المَسيحِ، لِخَلاصِ الإنسانِ، لَكانوا هَلَّلوا فرِحِينَ، وسَبَّحوا اللهَ شاكِرينَ، وأدرَكُوا أنَّ خِدمتَهم اكتَمَلَت به.
هذا المَقطَعُ الإنجيليّ خيرُ فاحِصٍ لِنَكتَشِفَ بِهِ صِدقَ مَحبَّتِنا ورِسالَتِنا، ويَعرِفَ كُلُّ واحِدٍ مِنّا مَوقِعَهُ وسُلطَتَهُ ومَركَزه، ومَهامَّهُ ودَورَهُ.
هل نحنُ نَخشى النُّورَ الحَقيقِيَّ لئلاّ تَنكَشِفَ عَورَةُ عَدَمِ مَحبَّتِنا واتِّضاعِنا أم نسعى لنتّحد به؟
كَتَبَ الأديبُ الفرنسيُّ المُعاصِرُ CHARLES LE QUINTREC، عَن علاقَةِ المَحبَّةِ بِالنُّور:
“A qui n'a pas l'amour la lumière est offense” ما مَعناهُ أنَّ مَن ليسَت فيه المحبَّة، يُصبِحُ النُّورُ حالة عدائية له".
وقد تميّزَ هذا الشَّاعِرُ بِنَقلِ تَجرِبَتِهِ المَسيحيِّة بِأبياتٍ شِعرِيَّةٍ رائِعة.
قولُهُ هذا يَجعلُنا نَتسَمَّرُ في أمَاكِنِنا، ونسأَلُ بِحُسنِ نِيَّةِ، لا كما سَألَ الفَرِّيسِيّونَ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضًا عُمْيَانٌ؟»، وعن أيِ نُورٍ نَبحَث.
مُنذُ فَجرِ التَّاريخِ، عَبَدَ الإنسانُ "الإلهَ" الشَّمسَ، واعتَبَرها مَصدَرَ الحَياة. ولكنَّ الإلهَ الحَقيقيّ، أتى إلينا وهُوَ يسوع.
في نِهايَةِ إنجيلِ هذا الأَحدِ، نَسمَعُ يَسوعَ يَقُول «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ»، وقد أَخبَرَنا يوحنّا الإنجيليُّ أن: "هذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً"(يوحنا ١٩:٣).
فاجعَلْنا اللَّهُمَ من أبنَاءِ النُّورِ الحَقيقيّ، نُتَرجِمُهُ مَحبَّةً لا مُتناهِيَة، لأنَّ كُلَّ ما هُو عَكسُ ذَلكَ عمىً وجَهلٌ وأنانِيةٌ، وتَمجيدٌ للذّات.
إلى الرَّبِّ نَطلُب.