هناك من أشاح نظره عن المسار اللبناني الداخلي وتفرّغ لترقّب مؤشرات الإقليم: متى يعقد الإيرانيون التسويات مع الأميركيين ثم السعوديين؟ تحصل لقاءات واتصالات في فيينا، وينشط أبرز الوسطاء رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بكل الإتجاهات: الأميركية-الإيرانية والسعودية-الإيرانية. تُرصد جدية تسووية دعت الإسرائيليين إلى دقّ النفير السياسي وإرسال وفد الى واشنطن لإقناع البيت الأبيض بوجوب إبقاء مصلحة تل أبيب فوق كل إعتبار، بغض النظر عن التباعد القائم بين الإدارة الأميركية الجديدة ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو. أوحت كل التصريحات التي تدور في الفلك الاسرائيلي سواء في تل ابيب او واشنطن أن الترابط والتحالف والإلتزام التاريخي بين الاميركيين والإسرائيليين هو أعمق من اي مقاربات سياسية حالية او مستقبلية. وكأن الاسرائيليين يريدون القول: أدخلونا في صلب أي تسوية، ولا تتركونا وحدنا نتصارع مع الإيرانيين وحلفائهم. اساسا صارت تل ابيب بحاجة الآن، اكثر من اي وقت مضى، إلى تثبيت ترابطها مع الأميركيين، بعد انتعاش الفلسطينيين في "اراضي ٤٨" بشكل يطيح تدريجيا بالمشروع الصهيوني، وتطور قدرات المقاومة في غزة، وفشل مشروع طحن الدولة السورية.
عندما هدد نتانياهو منذ ايام بإختياره المواجهة على العلاقة مع واشنطن، كان يحاول بذلك رفع سقف التفاوض مع الأميركيين قبل وصول الوفد الاسرائيلي الى الولايات المتحدة. ثم جاء الاعلان الاميركي بعد الإجتماع عن الإلتزام بالتحالف مع تل ابيب، ليؤكد ان هناك موافقة اسرائيلية على عدم تعكير اجواء المفاوضات التي ستجري بين طهران وواشنطن.
ماذا عن إيران؟ هي أكثر ارتياحًا نتيجة مستجدات المرحلة اقليميا ودوليا في ظل سعي دول عربية لترتيب العلاقات مع الجمهورية الاسلامية.
لكن ايران تترقب بت هوية رئيس الجمهورية الإيرانية قبل حسم مسار ومصير التفاوض النووي-السياسي.
يشير التوجه لإنتخاب المرشح ابراهيم رئيسي رئيسًا للبلاد الى إمكانية تصلّب المؤسسة الإيرانية في المفاوضات المرتقبة. فهل يعني ذلك تأجيل البت بأي مفاوضات؟.
بالتأكيد إن واشنطن سترفع سقفها مقابل ايّ تشدد ايراني، خصوصا ان الأميركيين يتخذون الكونغرس حجة لإبقاء عقوبات على طهران بهدف التفاوض ايضا على تقليص ادوار حلفائها في الإقليم. لكن الجمهورية الإسلامية لا تستطيع التنازل عن حلفاء مدّدوا نفوذها وفرضوا قوتها، فأين المخارج؟.
العنوان الأميركي-الإيراني المشترك هو التفاهم، لكن الطريق اليه مليئة بالمطبّات التي ستُزال ولو بعد حين. ومن هنا تبدي القوى، خصوصاً الإقليمية منها، الإستعداد للدخول في مرحلة جديدة. فأين لبنان؟.
تتحدّث معلومات عن ترقّب شخصيات سياسية لبنانية مسار المفاوضات المقبلة على خطي واشنطن-طهران، الرياض-طهران. هما خطّان مُنفصلان كلّياً ولا يرتبطان ببعضهما البعض، إنطلاقا من وقائع:
*ضبابية العلاقة الاميركية-السعودية في عهد ادارة الرئيس جو بايدن.
*عبء الحرب اليمنية على السعوديين المتروكين وحدهم من دون اي سند غربي.
*توجه كل دولة إقليمية لترتيب علاقاتها مع الخصوم، كما الحال بين تركيا ومصر.
*تزايد الأزمات الاقتصادية التي تحتّم التوجه نحو تسويات بالمفرق، بحسب مصالح كل عاصمة.
لذا، أرسلت الرياض اشارات طيبة للإيرانيين، وبادلتها طهران فورا بتحية احسن منها على طريق اعادة فتح القنصليات في البلدين، ثم تأليف لجنة تنسيق عليا بين المملكة والجمهورية الاسلامية. مما يعني امكانية بت التسوية بينهما قبل طلوع شمس التسوية بين واشنطن وطهران.
سيتأثر لبنان بهذا المسار، لكن الانتظار قائم في ظل سلوك السعوديين خطوات سياسية تجاه بيروت لا تشبه مسارها السابق. لا تريد الرياض حصر علاقاتها مع فريق او شخصية، بل هي تنفض يدها من كل سياسات سابقة في هذا المجال. وهو امر يُترجم ضبابية على درب رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الذي يحظى بدعم روسيا وحلفاء طهران ودمشق.
صحيح ان تلك القوى هي صاحبة قرار ونفوذ في الاقليم ولبنان، وقادرة على تسويق او فرملة اي مشروع سياسي، وستزداد قوتها بعد الاعلان عن التسويات المشار اليها على الخطين المذكورين اعلاه. لكن هل يتحمّل لبنان مزيدا من الانتظار اقتصاديا ومجتمعيا وسياسيا وصحيا ومعيشيا؟ لا يتحمل بالتأكيد. مما يعطي مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الاهمية الوطنية لاستيلاد حكومة من دون أي تأخير إضافي.
حتى الآن، كل الخيارات مفتوحة، اما البدء بمعالجة فورية تتبعها الاستفادة من التسويات عند حدوثها، واما البقاء في مساحة الترقب المؤلم جداً، وبعدها ستحل التسويات وستنعكس تداعياتها على لبنان. الفارق أن التصرف حاليا يخفف من اعباء وخسائر ويمنع هدر الوقت.