بغضّ النظر عن الأسباب التي أسفرت عن وُصول الأمور في لبنان إلى هذا الدرك المُظلم، أكانت عبارة عن صراعات إقليميّة-دَوليّة في إنتظار مرحلة التسويات، أو عبارة عن صراعات سياسيّة ومذهبيّة وحزبيّة وحتّى شخصيّة محليّة، إنّ لبنان يعبر اليوم مرحلة إنتقاليّة شديدة الدقّة. وفي حال النجاح في تشكيل حُكومة أو حتى في حال الفشل، وفي حال جاءت الحُكومة تكنو-سياسيّة أم إختصاصيّة الطابع، أو حتى مُوقّتة للتحضير لمرحلة الإنتخابات، لن يتغيّر واقع عُبور لبنان المرحلة الإنتقاليّة! وهذه هي الأسباب:
أوّلاً: إنّ الوقت تأخّر جدًا على تشكيل أيّ حُكومة إنقاذيّة تكون قادرة على وضع خُطة إقتصاديّة-إصلاحيّة طويلة الأمد، وتكون قادرة على التفاوض مع صُندوق النقد الدَوليّ للحُصول على قروض ماليّة، وعلى القيام بجولات حول العالم لجلب الأموال والمُساعداتمن مُختلف الدُول الصديقة. فبكل بساطة، في حال تشكيل أيّ حُكومة غدًا صباحًا، ونيلها الثقة بشكل فوري، تحتاج لما يقلّ عن مئة يوم لتحضير الملفّات ولتجهيز العدّة للتفاوض مع الخارج، علمًا أنّه بحُلول الخريف المُقبل يكون لبنان قد دخل عمليًا مرحلة الإنتخابات بكلّ تفرّعاتها، أي مرحلة تمرير الوقت على مُختلف الصُعد، إلى حين وُضوح صُورة ونتيجة المحطّات الإنتخابيّة المُرتقبة.
ثانيًا: إنّ الإنتخابات النيابيّة يُفترض ٍأن تتمّ في أيّار من العام المقبل، أي بعد أقلّ من سنة من اليوم، علمًا أنّ المَعلومات المُتوفّرة تُشير إلى أنّ جهّات سياسيّة داخليّة تنوي تحريك ملفّ قانون الإنتخابات في الأسابيع القليلة المُقبلة، مع ما قد يُثيره هذا الموضوع من خلافات، وأنّ ما أخّرها حتى تاريخه هو تعثّر الملفّ الحُكومي وطغيان واقع الإنهيار الحياتي والمعيشي على ما عداه. وحتى لوّ سلّمنا جدًلا، أنّه جرى الإبقاء على قانون الإنتخابات النيابيّة نفسه، وتمّت مُعالجة بند تصويت الإغتراب اللبناني لستة نوّاب، بشكل قانوني وسلس، فإنّ إجراء الإنتخابات في موعدها من دون مشاكل، لا يحلّ مُشكلة الحُكومة والوزراء. فأي رئيس جديد للسُلطة التنفيذيّة، وأي وزير ضُمن الحُكومة المَنشودة، لا يستطيع وضع خُطّة عمل طويلة الأمد، لأنّه فور إجراء الإنتخابات النيابيّة تُصبح الحُكومة بحُكم المُستقيلة(1)، على أن يتمّ بعد ذلك تشكيل حُكومة جديدة وفق المُعطيات والوقائع المُجدّدة التي ستُفرزها الإنتخابات النيابيّة.
ثالثًا: أكثر من ذلك، بما أنّ الإنتخابات الرئاسيّة مُقرّرة في خريف العام 2022، أي بعد سنة وبضعة أشهر، فإنّ مُختلف القوى ستنتظر إسم الشخصيّة التي ستستلم منصب الرئاسة خلفًا للرئيس العماد ميشال عون، لأنّه بعد إنتخاب الرئيس الجديد، سيتمّ تشكيل حُكومة جديدة تعكس صُورة وتوازنات العهد الرئاسي المُقبل. وبالتالي، إنّ الأمور ستكون في مرحلة المُراوحة حتى بعد إجراء الإنتخابات النيابيّة، في إنتظار إنجاز الإنتخابات الرئاسيّة، لأنّ أي حُكومة قائمة عندها ستكون بحكم المُستقيلة.
رابعًا: إنّ منطقة الشرق الأوسط تشهد في هذه المرحلة مُفاوضات حسّاسة في الملفّ الإيراني الذي له تأثير على العديد من ملفّات المنطقة. وعلى خطّ مُواز تجري مُحاولات مُتعدّدة لإعادة ترتيب الملفّات الساخنة في الشرق الأوسط، من خلال زيارات ولقاءات وإتصالات مباشرة وغير مباشرة بين قوى إقليميّة مُتخاصمة، بمُساعدة إقليميّة ودَوليّة. ومن شأن هذه الحركة السياسيّة والدبلوماسيّة أن تضيف أسبابًا خارجيّة تُسبّب المُماطلة والتأجيل في الحسم، إلى العراقيل اللبنانيّة الداخليّة التي تمنع ذلك أساسًا.
خامسًا: إنّ الواقع الذي بلغه لبنان-الدولة، على المُستويات الإقتصاديّة والماليّة والخدماتيّة، وكذلك لبنان-الشعب على المُستويات المعيشيّة والحياتيّة، بات خطيرًا لدرجة أنّه قد يطغى على أيّ تطوّرات سياسيّة مهما علا شأنها، بحيث تُصبح الأولويّة للمُحافظة على الأمن الإجتماعي، وعلى الحؤول دون الإنزلاق إلى الإنهيار الشامل للمؤسّسات وبالتالي إلى التفلّت الأمني، وتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة تسود فيها شريعة الغاب. وتلميح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخير بشأن العمل على توفير مظلّة حماية للبنان يصبّ في خانة مُحاولة منع الوُصول إلى هذه المرحلة الخطيرة والمُدمّرة، في إنتظار وضع لبنان على سكة الحُلول.
في الخُلاصة، لبنان هو حاليًا في مرحلة إنتقاليّة، لن تنته فُصولاً قبل نهاية العام 2022، بغضّ النظر عن نتائج مساعي تشكيل الحكومة، وعن هويّة رئيس هذه الحُكومة المَوعودة وعن طبيعتها. صحيح أنّ تشكيل الحُكومة اليوم قد يُخفّف من وقع الإنهيار، لكنّ الأصحّ أنّه لا يحلّ الأزمة، وكل ما يحصل حاليًا هو تمرير للوقت في إنتظار وُضوح الصُورة محليًا وإقليميًا. والمُشكلة أنّه في الإنتظار، وبدلاً من العمل على تمرير الوقت بأقلّ أضرار مُمكنة، تُساهم السُلطة والطبقة السياسيّة بكاملها، في زيادة حجم هذه الأضرار، وفي تسريع وتيرة الإنهيار، غير آبهة بمصير شعب كامل!.
1- بحسب المادة 69 من الدُستور، تُعتبر الحُكومة مُستقيلة في الحالات التاليّة: (...) عند بدء ولاية مجلس النواب (الفقرة ه)، وعند بدء ولاية رئيس الجمهوريّة (الفقرة د)، إلخ.