صحيح انّ الرئيس سعد الحريري يضع احتمال اعلان اعتذاره عن التكليف امامه على الطاولة، لكن لا تزال هنالك مسافة زمنية غير محدّدة تفصل بينه وبين اتخاذه هذا القرار. فالمسألة لها علاقة بحسابات كثيرة، ابرزها على الاطلاق، ما اعلنه هو حول تنسيق خطوته مع حليفه الرئيس نبيه بري المتحالف بدوره مع «حزب الله»، أضف الى ذلك، عدم اتضاح الخطوة التالية، فيما الساحة الاقليمية تتحضّر لإعادة تركيبها وفق ترتيب نفوذ دولي جديد.
لكن لا بأس من رمي حجر كبير في المياه الحكومية الراكدة، وهذا بالضبط ما احدثته حركة الحريري المترافقة مع التلويح بالاعتذار. فهذه الخطوة يمكن وضعها في اطار الهجوم المضاد للحريري في وجه هجوم النائب جبران باسيل غداة إجهاض مبادرة الرئيس بري. وبالتالي، فإنّ «همروجة» الحريري جاءت لملء الفراغ ولعدم ترك الساحة مفتوحة امام خصمه رئيس «التيار الوطني الحر» الذي كان باشر بفتح الخيارات البديلة للحريري.
لذلك سارع الحريري الى اقفال الساحة السنّية وشدّ العصب السنّي، فتواصل بداية مع شخصيات سنّية معروفة بمعارضتها له، مثل النائب جهاد الصمد، ثم انطلق الى دار الافتاء، حيث تضمن البيان تحذيراً مزدوجاً للذين يريدون ضرب اتفاق الطائف والذين يعملون على المسّ بصلاحيات الرئيس المكلّف. ووفق ذلك، تصبح المواجهة مع الطائفة السنّية وليس مع الرئيس الحريري. وضمناً، فإنّ اي هزيمة للحريري ستُعتبر هزيمة للسنّة في لبنان. وهو ما يعني شدّ العصب السنّي لصالح الحريري، وفي الوقت نفسه اقفال كل الطرق امام طرح اي بديل عن الحريري. هذا في وقت عادت فيه التحركات في الشارع. قريباً سيتمنى الرئيس بري على حليفه الرئيس الحريري تأجيل قرار اعتذاره، وسيعلن الاخير تجاوبه مع هذا الطلب، واضعاً عبر الاعلام شروطاً ومهلة زمنية. لكن الأكيد انّ عقدة التأليف المتوقفة بشكل اساسي على تسمية الوزيرين المسيحيين، ستبقى قائمة وهو ما يعني بالمختصر المفيد، ان لا حكومة في الأمد المنظور.
وهذه هي القناعة التي أضحت راسخة عند الفريق الفرنسي الذي يتولّى متابعة الملف اللبناني. ذلك انّ مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل والمكلّف من الرئاسة الفرنسية بمتابعة ملف الحكومة اللبنانية، يستمر في تواصله الهاتفي مع الفرقاء اللبنانيين وخصوصاً مع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائب جبران باسيل. لكن دوريل لا يتردّد في الإعراب امام سائليه بأنّه لا يرى حكومة في لبنان قريباً.
وعلى الرغم من تحفّظه اللافت خصوصاً في الآونة الاخيرة، فإنّ دوريل يبدي قلق بلاده العميق من مستوى الانهيار الذي وصل اليه لبنان، لأنّه قد يؤدي الى تمزيق البلد في حال استفحاله اكثر.
من هنا المبادرة الفرنسية للعمل على تأمين حشد دولي لمؤتمر دعم الجيش، كونه عامود الارتكاز الذي يحول دون تمزّق لبنان وتناثره قطعاً صغيرة. وتدور توقعات في باريس، بأنّ هذا المؤتمر سينجح في تأمين مساعدات ملحّة للجيش بقيمة تناهز 75 مليون دولار.
هذا في الوقت الذي تكاد تنهي فيه باريس إبلاغ شخصيات لبنانية بإدراجها على لائحة الممنوعين من دخول الاراضي الفرنسية.
ولأنّ الافق السياسي مسدود ووتيرة الانهيار تتسارع، طرح الرئيس الفرنسي خطته العاجلة، الآيلة الى إنقاذ البنية التحتية للقطاعات الحيوية في لبنان من الانهيار الكامل.
ولهذه العجلة اسبابها الموجبة. فلقد كان من المفترض ان تنخفض مدة التغذية الكهربائية الى ساعتين فقط يوم السبت الماضي، على ان تصل هذه التغذية الى الصفر نهاية هذا الاسبوع. وتملك باريس معلومات، بأنّ ثمة عرقلة لبنانية داخلية لمشروع تأمين الاعتمادات المطلوبة لشراء الفيول. وانّ من يقف وراء هذه العرقلة يدرك جيداً أنّ توقف انتاج الكهرباء بالكامل سيؤدي الى انهيار كامل للانترنت وقطاعات حيوية مثل المستشفيات وتوقف عمل البنى التحتية بشكل شبه كامل. وباختصار، فإنّ توقف الكهرباء بشكل كامل سيعني زوال الدولة اللبنانية والذهاب الى خيار الدويلات او المؤتمر التأسيسي لصيغة نظام جديد. فخلال الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان في العام 2006، وضعت واشنطن خطاً احمر امام اسرائيل حول معامل انتاج الكهرباء. ورغم عجز اسرائيل عن تحقيق انتصارها، لم تقترب الطائرات الاسرائيلية من معامل انتاج الكهرباء، واقتصرت غاراتها على محطات تحويل الكهرباء لا معامل انتاجها. والسبب واضح، وهو أنّ توقف معامل انتاج الكهرباء سيعني لاحقاً زوال الدولة اللبنانية وفتح الطريق امام تعزيز نفوذ قوى الامر الواقع. لذلك سارعت باريس في طلب مساعدة واشنطن، التي تدخّلت لدى الحكومة العراقية، فوافقت الاخيرة على إمداد لبنان بسرعة بالفيول ووفق طريقة الدفع التي تلائم لبنان.
وفي موازاة ذلك، اعلن ماكرون خطته الطارئة لمنع الانهيار الكامل لما تبقّى من مؤسسات البنى التحتية في لبنان.
وباريس تدرك ايضاً انّ واشنطن قرّرت تسريع خطواتها لفتح الملف اللبناني بمعزل عن تطورات مفاوضاتها مع ايران. وتتضمن موجبات فتح الملف اللبناني التفاهم مع القوى اللبنانية الاساسية وفي طليعتها «حزب الله» حول المرحلة المقبلة وكيفية ضمانها.
لذلك سيحمل المؤتمر الذي دعا اليه الفاتيكان في الاول من تموز، والمخصّص للبنان، العديد من الإشارات البليغة، حيث من المفترض ان تصدر توصيات، على ان تلي ذلك مبادرة فاتيكانية باتجاه لبنان، ومن بعدها الدعوة ليوم اسلامي - مسيحي في الفاتيكان ايضاً، مع صدور توصيات جديدة تؤكّد على التمسك بنموذج التعايش الاسلامي - المسيحي.
لكن اللافت ما كانت قد اعلنته السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو خلال لقائها لجنة الصداقة النيابية اللبنانية - الفرنسية بعيداً من الاعلام. فهي دعت الى وجوب تشكيل حكومة جديدة، لعدم المجازفة بمستقبل البلد وليس لإرضاء الرئيس الفرنسي. وكلامها حمل ما يشبه التحذير.
وهي شدّدت على انّ باريس تعمل لوضع لبنان على الأجندة الدولية، فيما هو موجود الآن على الأجندة الاقليمية. وتابعت غريو كلامها «المرمز» قائلة، بأنّ لبنان هو الآن بند في ملفات اخرى، فيما يريد ماكرون تغيير ذلك، وان يكون ملفاً مستقلاً، رغم انّ الجهود في هذا الاطار تعرقلها التداعيات القاسية لجائحة كورونا. لكن الحل قد لا يحصل الّا برفع مستوى التحشيد الدولي. لكن النقطة التي اثارت فضول النواب المشاركين، هي عندما تساءلت عن اي نموذج مالي واجتماعي يجب ان يُعتمد في لبنان؟ وانّ المفتاح الحقيقي للأزمة الحاصلة هو بإرساء اسس جديدة. لكنها استدركت بالقول، إنّ هذا يعود للبنانيين وحدهم.
الواضح انّ فرنسا التي حظيت من جديد بالدعم الاميركي، وهو ما تظهّر بوضوح خلال انعقاد قمة مجموعة الدول السبع في بريطانيا، تنظر لاستعادة حضورها في المنطقة من خلال لبنان، وهي تنظر الى ذلك من خلال تأثير البعد المتوسطي الفرنسي مع الجيوسياسي.
في الخلاصة، هي تدرك الأبعاد الكبيرة للأزمات السياسية والاقتصادية والمالية في لبنان، لذلك تعمل على تسريع فتح الابواب الدولية امام الملف اللبناني.