مجدّدًا، لجأ رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري إلى "تكتيك" التلويح بالاعتذار عن مواصلة مهمّته، على وقع "التخبّط" الذي اصطدمت به مبادرة "الفرصة الأخيرة" بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وفي ضوء العجز عن إيجاد "قواسم مشتركة" بينه وبين فريق "العهد"، ولا سيّما رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل.
يقول المحسوبون على الحريري والمقرّبون منه إنّ خيار "الاعتذار" مطروح على الطاولة بقوّة هذه المرّة، لأنّه لا يستطيع أن يبقى مكلَّفًا إلى ما شاء الله، ولو من باب "النكاية بالعهد"، ولأنّ الأمور تجاوزت كلّ الحدود المرسومة، في ظلّ الإصرار على فرض الشروط، وكأنّ شيئًا لم يكن، ولا انهيار يكاد يطيح بالوطن عن بكرة أبيه.
لكن، في مواجهة هذه "القناعة" لدى الحريري، ثمّة من يرى أنّ الرجل حقّق بمجرّد التلويح بـ"الاعتذار" ما يريده، إذ نشطت الاتصالات الضاغطة لثنيه عن الإقدام على الخطوة، وتلقّى بذلك "جرعة دعم" لا يُستهان بها، من المرجعية الدينية السنّية والسياسية الشيعية، وهو ما دفعه إلى "التريّث" بقراره، حتى أجَلٍ قد لا يكون طويلاً.
يرى البعض أنّ الحريري الذي نجحت "البروباغندا"، بمُعزَل عن مدى دقّتها، في تصويره وكأنّه من "يعرقل" تأليف الحكومة، أو بمعنى أدقّ، لا يريد إنجاز مهمّته، طالما أنّه يفتقد "المظلّة الإقليمية" الداعمة، استطاع "تبرئة ذمّته" ورمي الكرة في ملعب "العهد" من جديد، في استمرارٍ لنهج "تقاذف المسؤوليّات" الذي لم يعد ينفع كثيرًا...
ليس مناورة!
ينفي المقرّبون من الحريري أن يكون تلويحه بالاعتذار تكتيكًا ينمّ عن "مناورة" قد تكون "خبيثة" لاستعادة "الريادة"، أو ربما إحراج "العهد"، وإجباره على سلوكٍ مغاير بما يسهّل تأليف الحكومة، وفق شروطه، ولو كانت من "البديهيّات" برأيهم، بمقتضى المبادرة الفرنسية أولاً، ومبادرة رئيس مجلس النواب التي حلّت بديلاً عنها، ومكمّلة لها في مكانٍ ما.
يصرّ هؤلاء على أنّ الحريري "لا يناور" حين يلوّح بالاعتذار، لا اليوم ولا في السابق، مذكّرين بأنّه حين سرّب نيّته بالاعتذار قبل أسابيع، على وقع "القطيعة" مع "العهد"، لم يتراجع سوى بعد الرسالة الشهيرة التي وجّهها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب، وانطوت على اتهاماتٍ من الوزن الثقيل، قرأها الفريق المحسوب عليه بمثابة "إهانات"، لا يمكن أن يكون الردّ عليها بالاعتذار الذي سيبدو "خضوعًا وخنوعًا"، بل بالتحدّي ورفع السقف.
لكنّ ما حصل بعد ذلك، أنّ "حليمة عادت إلى عادتها القديمة"، بحسب ما يقول "المستقبليّين"، حيث يلفتون إلى طريقة التعامل مع مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، التي أجمع كلّ الفرقاء على أنّها "الفرصة الأخيرة"، وأنّ تضييعها سيكون بمثابة "التهلكة"، وبالتالي رمي البلاد في المجهول. استنادًا إلى ذلك، يقولون إنّ الحريري تجاوب مع المبادرة، وقدّم كلّ التسهيلات، متخلّيًا عن صيغة الـ18 وزيرًا التي كان متمسِّكًا بها، "كرمى لعيون" رئيس المجلس.
أما المفاجأة، وفقًا للمحسوبين على الحريري، فأنّ مبادرة بري اصطدمت من جديد بـ"تعنّت وتصلّب" باسيل، الذي بدل البناء على ما تقدّم لإحداث "الخرق الموعود"، راح "يتباهى" بتسريباتٍ يوحي فيها بأنّه من "يؤلّف" الحكومة، موحيًا أنّ رئيس الحكومة المكلّف "يتفرّج من مقاعد الاحتياط"، في أداءٍ لا يجد "المستقبليّون" تفسيرًا له، بعيدًا عن تعمّد "استفزاز" رئيس الحكومة المكلَّف، وهو ما يندرج في سياق "تكتيك" الإحراج فالإخراج أيضًا وأيضًا.
بين برّي والحريري
لهذه الأسباب، يعتقد "المستقبليّون" أنّ التلويح بالاعتذار جدّي، بل يذهبون أبعد من ذلك بالقول إنّ إقدام الحريري على هذه الخطوة أقرب من أيّ وقتٍ مضى، وأنّ ساعات قد لا تكون طويلة تفصل عمليًا عن الموقف النهائيّ بهذا الخصوص، ولكن بعد التشاور مع "الأصدقاء والشركاء"، الذين يصرّ رئيس الحكومة المكلّف على تنسيق قراراته معهم.
ولا يخفي "المستقبليّون" في هذا الإطار، أنّ "تريّث" الحريري بإعلان الاعتذار جاء بناءً على الجو الذي خلص إليه اجتماع المجلس الشرعي الأعلى يوم السبت، ولكن قبل ذلك بموجب "تمنّي" رئيس مجلس النواب تحديدًا، الذي يبدو أنّه لم "ييأس" بعد، ولم يرفع "راية الاستسلام"، ويريد بذل المزيد من الجهود لإنقاذ مبادرته، رغم أنّها انتهت إلى "سجالٍ شخصيّ" بين فريقه السياسيّ، ورئيس "التيار الوطني الحر"، الذي يتعامل معه بصفته خصمًا لا وسيطًا.
إلا أنّ هذا "التريّث"، معطوفًا على "التنسيق"، هو بالتحديد ما يدفع خصوم الحريري إلى التعامل مع تلويحه بالاعتذار، وكأنّه مجرّد "مناورة" جديدة، لا أكثر ولا أقلّ، وهم يلفتون إلى أنّ الرجل لو كان جدّيًا بخطوته، لأعلنها سريعًا، بدل هدر المزيد من وقت اللبنانيّين، وما إصراره على القول بأنّه لن يتّخذ أيّ خطوة دون رضا رئيس البرلمان سوى "الدليل" على أنّ الطرح غير جدّي، لأنّ القاصي والداني يدرك معارضة بري لمبدأ الاعتذار في الشكل والمضمون.
وفيما أشار بري، في معرض رفضه للاعتذار، إلى أنّه سيعقّد الأمور أكثر، متسائلاً عن "البديل الموضوعيّ"، يرى "العونيّون" أنّه في النهاية يبقى أفضل من حالة "المراوحة" القائمة، لا سيّما أنّ الحريري أخذ كلّ فرصته، ولم يستفِد منها. ويشدّدون على أنّ هذا الأسبوع ينبغي أن يكون "مفصليًا"، بلا مهل "مفتوحة" تضرّ ولا تنفع، فعلى الحريري أن يحزم أمره، إما عبر تأليف الحكومة، وإما عبر الاعتذار، بما يفسح المجال على الأقلّ للتفكير بحلول وسطيّة.
"اشتدّي يا أزمة تنفرجي"
وفق قاعدة "اشتدّي يا أزمة تنفرجي"، ينظر البعض بتفاؤل إلى "الانفجار الحكوميّ" الذي خلصت إليه الاتصالات خلال الأيام القليلة الماضية، باعتبار أنّه قد يكون "مفتاح الفرج"، وقد يؤدّي إلى ولادة الحكومة في وقتٍ قريب، قد لا يتخطى 48 ساعة.
ينطلق أصحاب هذا الرأي من أنّ تلويح الحريري بالاعتذار الجدّي قد يدفع الوسطاء إلى "الاستنفار" لابتكار الحلّ، بل اختراعه في مكانٍ ما، انطلاقًا من أنّ البديل عن الحريري لن يكون سوى المجهول والفوضى، التي لا يريدها أحد في ظلّ المعطيات الحاليّة.
لكنّ مثل هذه المقاربة، التي قد تكون منطقيّة في الحالات "المثاليّة"، لا يمكن إسقاطها على الواقع اللبناني "الشاذ"، واقع لم يشعر معه المسؤولون عنه بأيّ "سخونة"، في ضوء مشاهد تتفوّق من حيث الخطورة على خطوة "اعتذار" الحريري، من "طوابير الذل" إلى "المآسي المتسلسلة" وغيرها.
الأكيد أنّ أزمة الحكومة مستمرّة، سواء تريّث الحريري أو اعتذر، أو حتى إذا تحقّقت المعجزة وتألفت الحكومة، إذ إنّ الاعتقاد أنّ طريقها ستكون مفروشة بالورود يبدو أقرب إلى الوهم، في ظلّ "المساكنة القسرية" بين الحريري و"العهد"، والتي لا تترك أيّ فسحة للأمل!.