عندما كان يتحدث رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري أمام المجلس الشرعي الإسلامي فهم الحاضرون أنه إتخذ قرار الإعتذار، لكنه يريد أن يمنع إعطاء أي شرعية سنّية لأي مرشح بديل منه. لم يكن خيار الإعتذار جديداً عند الحريري. سبق وأن أبلغ الروس لدى زيارته الأخيرة الى موسكو أنه ينوي الإعتذار "نتيجة عدم تجاوب رئيس الجمهورية ميشال عون مع رؤيته في شأن تأليف حكومة تحظى برضى دولي". لكن رئيس الحكومة المكلّف أعاد إحياء طرح الإعتذار في دار الفتوى لتحقيق أهداف عدة:
١-أراد ان تصل رسالته معجّلة مكرّرة الى موسكو التي كانت وعدته بالمؤازرة في تذليل العقبات المتراكمة في طريق التأليف الحكومي، خصوصا أن هناك اجتماع قمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن، سيتمّ خلاله طرح الملف السوري لفتح آفاق مستقبليه تُعطي الروس مزيداً من الأدوار الشرق أوسطية، ويكون عندها لبنان معنيّاً بالنقاش المرتقب حول الساحة السورية.
٢-قام الحريري بتحشيد السنّة خلفه لإجهاض طرح إسم أي شخصية لا تحظى بموافقته، وتحديداً النائب فيصل كرامي المطروح جدياً في الإعلام لتولي المهمة، علما ان الحريري تحدث خلال الاجتماع في دار الفتوى عن لقاءاته التشاورية مع شخصيات سنّية علناً (قصد النائب جهاد الصمد)، وبعيدا من الإعلام(قصد النائب عبدالرحيم مراد)، لكنه سمّى كرامي بالإسم بأنه اراد وضع شروط لحصول اللقاء رفض الغوص بها الحريري، وبالتالي لم يحصل الاجتماع بينهما.
٣-تحدث الحريري في دار الفتوى عن "خسارة" مشروعهم السياسي في الإقليم، بدليل المفاوضات الاميركية-الإيرانية. وهو بذلك تحدث بواقعية سياسية غير مسبوقة في أداء رئيس الحكومة المكلّف، لكنه استخدم ايضاً اسلوب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي كان يلجأ لتحشيد الموحدين الدروز خلفه، عبر تضخيم المخاوف الخارجية والداخلية. وانطلاقا من هنا قال بوجوب التفرغ "لترتيب البيت السني"، أي لترسيخ نفسه زعيما سياسيا للسنّة في لبنان. وهذا أمر يدل على محاولته الالتفاف على إستبعاده من الحياة السياسية بعد فشله في تأليف الحكومة، وبالتالي الاستعداد لخوض انتخابات نيابية تجمعه مع شخصيات سنّية اساسية في المناطق تحت عنوان طائفي، وبالإرتكاز على خطاب سياسي موجّه ضد العهد الرئاسي.
٤-اراد الحريري ان تصل رسالته الى السعودية التي توحي بأنها غير معنية لا به ولا بلبنان. لكنّه يعلم ان الرياض لو ارادت سحب البساط السنّي من تحته لفعلت، على الأقل من خلال اشارتها لدار الفتوى والمجلس الشرعي او اي شخصية سنية.
٥-إستبعد رئيس الحكومة المكلّف رؤساء الحكومات السابقين عن حضور اجتماع دار الفتوى، كي لا يتقاسم معه اركان النادي الآخرين وهج اللقاء السنّي، وسط معلومات تتحدث عن خشيته من إسمين مطروحين للتكليف في حال الإعتذار، رغم دعمهما للحريري بكل المقاييس: نجيب ميقاتي وتمام سلام. علما ان تيار "المستقبل" قلق من وضعية ميقاتي شمالياً وسنّياً ودولياً. بينما ذكرت معلومات ان أحد اركان "المستقبل" يقف خلف التظاهرة التي جرى تنظيمها امام منزل ميقاتي في طرابلس في الايام الماضية.
٦-ابلغ الحريري المجلس الشرعي ان رئيس المجلس النيابي نبيه بري هو الذي يقف معه صادقاً على الصعيد الداخلي، أيّ أن "الثنائي الشيعي" يدعمه في مسيرة التأليف الحكومي، كما يصدق المصريون في دعم خطواته بإندفاع في الخارج. وهو بذلك اوحى للقاء دار الفتوى انّه يحظى بدعم اسلامي شيعي وسني، اراد ان يتكرس رسمياً في المجلس الشرعي. وهذا ما حصل فعلاً.
امام كل تلك المؤشرات، يُبقي الحريري كل الخيارات مطروحة امامه بعدما وضع مختلف انواع السيناريوهات: المضي بالتكليف من دون نتائج حتى موعد الانتخابات. الاعتذار وتكليف شخصية سنّية تنسجم مع مصالحه وتُبقي نفوذه. الاعتذار بعد اعلان فشل مبادرة بري ورمي الكرة في ملعب العهد ثم التحضير لإنتخابات نيابية شعبوية ضد السلطة.
وتحدث مقربون من "المستقبل" في مجالسهم أن الحريري بات اكثر ارتياحاً "بعدما صارح اركان السنّة بالحقائق"، وكأنه يدعوهم الى اتخاذ خيارات وجودية في السياسة اللبنانية، لكن قراره سيبقى رهن اشارة بري الذي يصر على متابعة خطواته في مشروع التسوية.
يعوّل رئيس المجلس النيابي على حصول مستجدات سياسية داخلية وخارجية تدفع مبادرته نحو التنفيذ، وهو يستند الى ركائز، لكن المؤشرات متفاوتة الانسجام والوضوح.
١-يوزّع "الثنائي الشيعي" الأدوار بين حركة "أمل" في احتضان الحريري(السنّية السياسية)، و"حزب الله" في دعم التيار "الوطني الحر"(المارونيّة السياسية)، وهما ينسقان كل خطواتهما يومياً في أداء سياسي مدروس يدرجانه في خانة "حفظ التوازن الوطني". وهذا ما يجعل الثنائي المذكور هو الأكثر إطمئناناً حالياً، وكسبًا سياسياً لاحقاً. فلو حصلت الانتخابات النيابية سيسارع التياران "الوطني الحر" و"المستقبل" الى كسب ود الثنائي المذكور، لسبب جوهري: لا حلفاء من الوازنين لأي من التيارين. هناك مشكلة تواجهما هو ان خصامهما بات يتخذ طابعاً طائفياً، خصوصاً بعد لجوء الحريري الى المجلس الشرعي الإسلامي لتحشيد السّنة خلفه، مما يعزز وضعية "الثنائي الشيعي" الذي بات بيضة القبّان في لبنان، بينما يحيّد رئيسا الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط و"المردة" سليمان فرنجية نفسيهما عن المواجهة السياسية القائمة.
٢-يلعب بري في مساحة التفاوض التي يتقنها، وهو يترقب الانباء المتوالية عن المفاوضات الاميركية-الايرانية، والاميركية-الروسية، والتعاون الفرنسي-الأميركي، وكلها تشكل عوامل منطقية دافعة نحو انفراجات لبنانية. علما ان الانكفاء الخليجي والسوري عن لبنان لا يساعد في تسريع الحلول، بينما لا يُترجم الثقل المصري عربياً. فالقاهرة كما باريس تكتفيان بدعم مبادرة بري في كل نسخاتها، لكن مصر مشغولة بملفين خطيرين في حسابات امنها القومي: النزاع مع اثيوبيا حول نهر النيل، والخلافات الفلسطينية، اما باريس فتتحضر لإنتخاباتها واعادة الدم الى شرايينها الاوروبيّة وتحالفاتها الغربية.
٣-لا يُظهر الاميركيون اي اهتمام بلبنان، من ضمن عدم اكتراثهم بالشرق الأوسط. كل الاهتمام الغربي ظهر في اجتماعات قمّة السبع بالتوسّع الصيني ثم الروسي. يريد الغرب ان يحدّ من ذاك التوسع والنفوذ، ولم يعد يعنيه ما يجري في الشرق الاوسط. لهذا طوى صفحة الأزمة السوريّة ولا يهتم في لبنان الا بملف الحدود الجنوبيّة لإعادة طرح ترسيمها وسحب فتيل النزاع بين لبنان واسرائيل.
كل ذلك يعني ان المشهد مثقل، فيتردد الصدى في ارتفاع سعر الدولار امام العملة الوطنيّة التي تفقد قيمتها تدريجياً. واذا كان ضبط سعر الصرف يبدأ بالسياسة، فإنّ ترجمة ايّ اتفاق سياسي للمعالجة تبدأ بولادة الحكومة.