على الرغم من الوضع السيء جداً الذي يعيشه لبنان على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية، تستمر المحاولات الاميركية الحثيثة لابقاء المفاوضات غير المباشرة بين لبنان واسرائيل قائمة، لا بل تستمر بوتيرة سريعة في وقت اعتقد الكثيرون انها ستأخذ وقتاً طويلاً لمعاودة نشاطها بفعل التغييرات التي شهدتها الولايات المتحدة الاميركية مع رحيل الرئيس الأسبق دونالد ترامب وحلول جو بايدن مكانه ومقاربته المختلفة للامور، اضافة الى "الزلزال" الذي ضرب اسرائيل بمغادرة بنيامين نتانياهو رسمياً منصبه كرئيس للوزراء وقيام حكومة ائتلافية جديدة برئاسة نافتالي بينيت. الغريب في الامر ان هذه التغييرات في الادارتين الاميركية والاسرائيلية لم تأخذ وقتها لاعادة دراسة الملفّات، وكأن شيئاً لم يكن، فعاودت الفرق نشاطها وبدأ الاميركيون يعودون الى الساحتين اللبنانيّة والاسرائيليّة لجسّ النبض حول الاستعداد للبدء بجولات تفاوضية جديدة.
الايجابية الوحيدة في المسألة هي ان الموقف اللبناني لم يتبدّل، وهو امر يمكن البناء عليه، فيما يبدو واضحاً أن الاميركيين والاسرائيليين يستعجلون استعادة المفاوضات على وقع الاهتزاز اللبناني الداخلي والضائقة الاسوأ التي يعيشها في تاريخه الحديث، وهي كلها عوامل من شأنها تقويض موقف من يعاني منها في أي عملية تفاوض، فكم بالحري عندما يتعلق الامر بالنفط والغاز؟ يدرك الاميركيون كما الاسرائيليين ان بدء لبنان في تلزيم الشركات التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما من ارضه، سيشكل دفعة اساسية لبدء خروجه من ازمته، وعليه يعتبران انه من مصلحة لبنان تخفيض سقف شروطه ومطالبه بحثاً عن الخروج من الورطة التي يعيشها والتي باتت تهدّد كيانه ووجوده. ولكن في الحقيقة، فإنّ الرهان الحقيقي للخارج ليس على عدم قدرة اللبنانيين على التحمّل، لانّهم اثبتوا في اكثر من مناسبة انهم "مطاطون" ويتقبلون كل ما يحصل لهم دون رفع الصوت الموحّد، وان تشتّتهم الطائفي والمذهبي والسياسي اقوى من سعيهم للحفاظ على حياة كريمة ومستقبل زاهر لهم ولاولادهم، وبالتالي فإنّ الاستعجال الدولي في ترسيم الحدود، هو لسحب كل الذرائع الممكنة حاضراً ومستقبلاً لمنع الشركات الغربيّة من التنقيب واستخراج النفط في الجانب الاسرائيلي، لان الخارج يدرك بما لا يقبل الشك انّ الخلافات بين اللبنانيين انفسهم كفيلة بتأمين مصلحته من دون بذل اي جهد استثنائي، كما يدرك الخارج ايضاً ان العائدات المتوقعة من هذا الامر بالنسبة الى اللبنانيين لن تستعمل لتحسين وضع البلد، بل لتعزيز نفوذ الاحزاب والتّيارات السياسية المتواجدة على الساحة اللبنانيّة، وتقوية شعبية من يؤيّدها، ليذهب اليسير جدا الى الخزينة والمواطنين. ويعرف الاميركيون ان قيام اي حكومة جديدة، حتى لو تم الاتفاق عليها بشكل فوري، ستتلهى بأمور كثيرة وستغرق في ملفّات اقتصاديّة وماليّة تدفع بها دول العالم ولن تكون هي من سيضع لبنان على درب الخروج من مأساته الطويلة، بل الخارج نفسه، وستكتفي بأن تكون المخرج القانوني والشرعي والدستوري للقرارات والشروط التي سيتم وضعها وسيقبل بها لبنان دون اي تفكير لانها السبيل الوحيد والشرط الوحيد الذي يراه لاستعادة الحياة شيئاً فشيئاً وفق ما كانت عليه قبل 17 تشرين الاول 2019.
انها الفرصة الانسب بالنسبة الى الخارج لتحصيل اقسى التنازلات الممكنة من البلد بالنسبة الى ترسيم الحدود البحرية، وليس هناك من تردد في ان كل هذا الحماس والنشاط الاميركي انما يأتي اولاً لتمكين اسرائيل من بدء مغامراتها في عالم النفط من دون ان تتطلع وتقلق بالنسبة الى تدخلات حزب الله وعرقلته لهذا المشروع، فيما على لبنان ان يستدرك الامور جيداً ويحاول، قدر الامكان، تكليف الجيش التفاوض بمعزل عما يحصل في الداخل وما يعانيه الناس (ومنهم طبعاً ضباط وعناصر الجيش) من صعوبات ومشاكل، كي يتفضى عندها اللبنانيون الى "مقاتلة" بعضهم على الثروات الطبيعية العائدة لهم.