من المنطقي ان تحظى الزيارة الخارجية الاولى للرئيس الاميركي جو بايدن بهذه العاصفة من الاهتمام، فهي ليست مجرد اول زيارة خارجية لرئيس الولايات المتحدة الاميركية دخل حديثاً الى البيت الابيض، بل هي تتعلق بإعادة تجديد العلاقة مع الدول الاوروبية، واعادة صوغ التفاهمات مع تركيا واعادة ترسيم حدود المصالح مع روسيا. والأهم، انّ كل ذلك يجري تحت سقف الاستراتيجية الاميركية الجديدة، في اطار بدء حقبة احتواء صعود نفوذ التنين الصيني على المسرح العالمي.
خلال المراحل السابقة نجح الاقتصاد الصيني في فتح ممرات واسعة له في العمق الاوروبي والتمدّد في القارة الافريقية وتركيز قواعد ثابتة له في منطقة الشرق الاوسط. ووفق ذلك نجحت الصين في بناء مواقع لها في دولة الامارات العربية المتحدة وبعض مناطق الخليج العربي والاهم الدخول الى اسرائيل، وتحديداً ميناء حيفا. وهو لم يوفّر الساحة اللبنانية حيث درست وفود صينية امكانية الاستثمار في البنى التحتية المتهالكة.
وتدرك واشنطن جيداً انّ الامكانات المتعاظمة للاقتصاد الصيني لم تُترجم بعد في اتجاه مكاسب سياسية او عسكرية على الساحة العالمية. لكن المسألة مسألة وقت، وهو ما دفع بمراكز صنع القرار الاميركي الى الإسراع في نسج استراتيجية المواجهة والاحتواء. ورغم الاضرار الهائلة التي خلّفتها ولاية دونالد ترامب على صعيد الحضور الاميركي على المستوى العالمي، إلّا أنّ ادارة بايدن، والتي جرى تشكيلها من افضل الخبراء في مجالات السياسة الخارجية، باشرت اعادة ترتيب اوراقها وفق هذا المفهوم. فكان لا بدّ في البداية من اعادة صوغ العلاقة الدافئة مع القارة العجوز. وهو ما تُرجم ايضاً من خلال صوغ تفاهمات جديدة مع فرنسا او العاصمة السياسية للاتحاد الاوروبي. واعادة رسم هذه العلاقة لا تقتصر فقط على القارة الاوروبية والسعي للحدّ من التمدّد الصيني، بل ايضاً لإعادة احياء التوازن مع روسيا، والاستعانة بالطموح الفرنسي في افريقيا والساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، وهو ما يعني لبنان تحديداً.
ذلك أنّ للساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط ومن ضمنه لبنان، اهمية خاصة في اطار الاحتواء الاميركي للتمدّد الصيني. بما معناه انّ نجاح الصين في تركيز أقدامها عند هذا الساحل، سيؤدي الى جعل تمدّدها في اتجاه القارتين الاوروبية والافريقية اكثر سهولة. ومعه لا بدّ من اقفال هذا الساحل وجعله بعيداً من التأثير الصيني. وبالتالي فإنّ اعادة صوغ التفاهمات مع تركيا لا بدّ من ان يكون قد لحظ هذا الجانب، اضافة الى الوظيفة التقليدية التي اضطلعت بها تركيا تاريخياً، والمقصود هنا التوازن مع روسيا، ولم لا، الشغب عليها. فالدولة التركية التي تمتلك قوة عسكرية هائلة، والتي تُعتبر اقوى دولة في الحلف الاطلسي بعد الجيش الاميركي، تعاني من ضعف اقتصادي كبير ادّى الى تراجع سحر اردوغان على الاتراك، والذي تُرجم خسارة مدوية في الانتخابات البلدية الاخيرة، ويهدّد مصير اردوغان في السلطة في الانتخابات المقبلة.
اما في اعادة ترسيم حدود المصالح بين واشنطن وموسكو، حيث بات الدب الروسي لاعباً اساسياً في الشرق الاوسط من خلال قواعده الجوية والبحرية عند الساحل السوري، فإنّ لائحة المصالح بين البلدين تطول من اوروبا الشرقية الى الشرق الاوسط الى شمال افريقيا الى ايران.
يُدرك فريق خبراء بايدن انّ ثمة نقاط ضعف كثيرة لدى الجانب الروسي، بدءاً من الاقتصاد الذي أنهكته حرب سوريا ومروراً بالتحدّيات الكثيرة في البلدان المجاورة، والتي تقع في المدى الحيوي الروسي، ووصولاً الى علاقة سيغلب عليها دائماً الحذر والقلق مع الصين.
وفق هذه الصورة، تعمل ادارة بايدن على انجاز تفاهماتها ايضاً مع ايران، وليس المقصود هنا التفاهمات حول البرنامج النووي فقط، بل خصوصاً مع التفاهمات السياسية لتوظيفها كلها في اطار استراتيجية احتواء التمدّد الصيني.
بالنسبة الى ساحل شرق البحر الابيض المتوسط، هنالك منطقتان تسعى ايران الى اختراقهما، والمقصود هنا الساحلين السوري واللبناني. عند الساحل السوري كانت ايران قد عملت على اقامة قاعدة بحرية لها في اللاذقية، حيث استأجرت ميناء في منطقة ليست ببعيدة عن طرطوس، ولأنّ علاقتها بالصين شهدت تطورات ايجابية خلال السنوات الاخيرة، وتوّجت باتفاقية اقتصادية ضخمة لمدة 25 عاماً، فإنّ وصول ايران الى شاطئ البحر المتوسط لا بدّ ان يفتح الباب لاحقاً امام سعي الصين الى هدفها.
وفي لبنان، كان واضحاً الكلام الذي صرّح به مسؤولون ايرانيون غداة نتائج الانتخابات النيابية الماضية، من أن نفوذ ايران وصل الى الساحل اللبناني. وفيما ملف الساحل السوري ستتولّى مسؤوليته روسيا، فإنّ ملف الساحل اللبناني تتولاه فرنسا، والمقصود هنا ليست المعالجة بالوسائل العسكرية أو العنفية، بل من خلال الاتفاقات والتفاهمات مع السلطات الشرعية في كل بلد. لكن هذا لا يعني انّ الامور ستكون سهلة. ففي العلاقة الاميركية ـ الروسية كثير من التناقضات، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان اجراء تفاهمات فعاّلة ومفيدة دفعة واحدة. لذلك حُكي عن تحديد الخطوط الحمر لدى كل طرف، والتفاهم على احترامها. بوتين تقلقه اوكرانيا وروسيا البيضاء والدعم الاميركي للمعارضة الروسية، وهو استبق لقاءه بنظيره الاميركي برسالة حربية انطلاقاً من سوريا، حيث نفّذت روسيا هجوماً في ادلب ادّى الى اغتيال قيادات في تنظيم «هيئة تحرير الشام». صحيح أنّ هذا التنظيم الارهابي تحاربه واشنطن ايضاً، لكن بوتين اراد ان يقول في رسالته انّه هو من يتحكّم بالقرار في سوريا ويجب التسليم بذلك.
وفي لبنان، حيث تتولّى فرنسا لعب دور الرعاية الدولية المباشرة، يدور نزاع خفي ومعقّد مع «حزب الله» حول بناء توازنات سياسية جديدة على مستوى السلطة في لبنان، على لهيب الانهيارات الاقتصادية والمالية. وتتداخل في هذه النزاعات الاطماع الذاتية والشخصية مع المشاريع السياسية الكبيرة. ويتركّز الاهتمام حول الرسائل الجاري توزيعها والخلفيات الحقيقية لمواقف الاطراف. فالبعض يتحدث عن دفع الامور في اتجاه استمرار الحصار المالي على لبنان في سعي لتأليب البيئات اللبنانية على «حزب الله» قبل التفاوض معه على سقف معقول، في مقابل حديث آخر عن مجاراة «حزب الله» اللعبة، عبر مساهمته في دفع الامور في اتجاه الهاوية، لإدراكه أنّ الغرب لن يغامر في ترك لبنان ينفجر ويتحول قطعاً متناثرة. وانّ الهدف هنا الذهاب الى المؤتمر التأسيسي، ومعه اقرار المثالثة من خلال تحلّل كل المؤسسات الدستورية. اليوم مجلس الوزراء وغداً المجلس النيابي، ويضع هؤلاء ما كاد ان يحصل لجهة توقف معامل انتاج الكهرباء في لبنان في اطار توجيه الضربة القاضية ركائز دولة «الطائف» سعياً للذهاب الى الجمهورية الثالثة او جمهورية المثالثة.
لذلك اندفعت فرنسا بالتعاون والتفاهم مع واشنطن الى عقد مؤتمر دولي لدعم الجيش، بغية عزله وحمايته من التداعيات الخطيرة للانهيارات المتتالية. لكن الواقع اللبناني الصعب دفع الادارة الاميركية الى وضع خطة تحرك حيال لبنان قبل انجاز توقيع الاتفاق النووي. وتردّد انّ رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس بعث برسالة الى الرئيس الاميركي قبل اسابيع، وفي خضم التحضير لجولته الخارجية، يطلب منه فيها الاهتمام ببعض الملفات، خلال جولته، ومنها الملف اللبناني الذي بات مقلقاً جداً ويهدّد بزوال صورته المعروفة، ووضعه كذلك في اجواء دعوته الى يوم لبناني في الفاتيكان في الاول من تموز المقبل، على ان تلي ذلك خطوات اخرى.
وفيما كانت وزارة الخارجية الاميركية قد استدعت سفيرتها في بيروت دوروثي شيا الى زيارة عمل، كان من المفترض ان تستمر حتى نهاية هذا الشهر، الاّ أنّه تمّ اختصار برنامجها بسبب الاوضاع الدقيقة في لبنان، وعادت امس مع برنامج حافل للتحرّك بالتنسيق مع السفيرة الفرنسية.
قد يبدو لبنان أضعف من ان يتحمّل هذا التغيير في خريطة النفوذ الجاري رسمها في الشرق الاوسط، لكن الأكيد، انّ احداً لن يلجأ الى خيارات عنفية، على رغم من انّ آلام الخيارات الاقتصادية تبدو اشدّ صعوبة.