سئم اللبنانيّون الحديث عن أسباب الفشل في تشكيل حُكومة جديدة: أكانت هذه الأسباب خارجيّة مُرتبطة بمصير مُفاوضات وتسويات إقليميّة ودَوليّة، أم داخليّة مُرتبطة بصراعات سياسيّة وحزبيّة وحتى شخصيّة! لكن ما حدث خلال الساعات القليلة الماضية، فتح الأعين على ما هو أبعد وأعمق من مُجرّد خلاف دُستوري على صلاحيّات كلّ من رئيس الجُمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلّف، مع عودة الحديث-بشكل مُباشر حينًاوغير مُباشر حينًا آخر، عن "مسيحي" و"مُسلم"، وعن "مُناصفة" و"مُثالثة"، وعن "أكثريّة" و"أقليّة"، إلى ما هناك من تعابير تُذكّر بزمن الحرب والإنقسامات الطائفيّة والمذهبيّة الحادة. فما هي مخاطر هذا الخُطاب؟.
بحسب وجهة نظر "التيّار الوطني الحرّ"، إنّ ما يحصل اليوم هي مُحاولة للعودة بالزمن إلى الوراء، من خلال الإلتفاف على صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، والسعي إلى تهميش دوره ونفوذه، ومن خلفه دور ونفوذ أكبر حزب ذات أغلبيّةشعبيّة "مسيحيّة"، وتركيب تحالفات سياسيّة تُناصب "التيّار" الخُصومة وتعمل على مُحاصرته وعلى إضعافه، للإنقضاض على الحقُوق المسيحيّة بالمُناصفة العادلة ضُمن الوطن، عبر طُروحات سياسيّة تُكرّس المُثالثة(1)، وتُمهّد الطريق من اليوم، لمُحاصرة الأحزاب المسيحيّة خلال الإنتخابات النيابيّة، ولتنصيب رئيس للجمُهوريّة بحسب إرادة قوى غير مسيحيّة. ولا يستثني "التيّار" أحدًا من القوى في إتهاماته هذه، حيث يصف القوى المسيحيّة الأخرى بالمُتخاذلة، ويتهم "حزب الله" بالوقوف على الحياد، أي دعم التحالف المُناهض للتيّار ضُمنًا، بدلاً من الوقوف إلى "جانب الحق"، ومؤازرة "التيّار" في معركته ضُدّ "منظومة الفساد".
في المُقابل، وبحسب وجهة نظر خُصوم "التيّار الوطني الحُرّ"، إنّ ما يحصل هو مُحاولة من جانب هذا الأخير لتجاوز الصلاحيّات المَمنوحة لرئيس البلاد في الدُستور في ما خصّ عمليّة تأليف الحُكومات، ومُحاولة من جانب "التيّار" للإستحواذ على حصّة وزاريّة تفوق بكثير حجم كتلته النيابيّة الحالية(2)، عبر اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي من جديد. ودائمًا، بحسب خُصوم "التيّار"، إنّ هذا الأخير الذي يتهم الآخرين بتحالفات رباعيّة وخماسيّة جديدة لإضعافه وحتى لإقصائه من السُلطة، يُحاول إستثناء نفسه من المسؤوليّة عمّا حصل من إنهيار مالي، والتي كان لمصاريف دعم الكهرباء مسؤولية كبرى فيه، عبر رفع شعارات طنّانة في الشكل عن الفساد والحقوق، لكسب التأييد الشعبي على بعد أقل من سنة من الإنتخابات النيابيّة، ويعمل في المَضمون على تأمين إحتفاظ "التيّار" بمنصب رئاسة الجُمهوريّة في الإنتخابات المُقبلة، من خلال ضمان ترشيح رئيس "التيّار" النائب جبران باسيل، وذلك عبر مُحاولة قطع الطريق مُسبقًا على أي تجاوز لقرارات "التيّار" على مُستوى السُلطة في لبنان ككلّ.
وبغضّ النظر عن وجهات النظر المُتضاربة هذه، الأكيد أنّ التوتّرات والإنقسامات الداخليّة بلغت مرحلة مُتقدّمة جدًا،حيث أنّها لم تعد بين خطّين سياسيّين عريضين أو نهجين إستراتيجيّين أساسيّين، بل باتت داخل كل فريق سياسي، وداخل كل طائفة ومذهب، مع تسجيل عودة نغمة "مسيحي"-"مُسلم" من جديد، مع كل مُتفرّعات هذا الخُطاب، بحيث يتحدّث هذا عن أكثريّة عدديّة مُقابل أقليّة، ويردّ ذاك بالحديث عن مُناصفة عادلة على مُستوى الإنتماء الوطني وإلا فلنذهب إلى الفدراليّة، ويتكلّم ثالث عن "موت دُستور الطائف"وضرورة تغيير النظام، في الوقت الذي يُواصل المركب اللبناني غرقه السريع في بحر الإنهيار المُدمّر، ولا من يلتفت إلى مصير اللبنانيّين جميعهم، بغضّ النظر عن إنتماءاتهم وإنقساماتهم! والأكيد أنّ الوقت غير مناسب إطلاقًا حاليًا لعقد أي مؤتمرات تُعيد صياغة الدُستور، حيث أنّ التوافق بين القوى الحاكمة في لبنان غائب عن تنظيم الإنهيار وعن إبطائه لتخفيف وقعه عن الشعب اللبناني، فكيف يُمكن وسط هذه الظُروف الصعبة والضاغطة جدًا، الخروج بدُستور جديد يسدّ الثغرات الهائلة التي حملها "إتفاق الطائف"؟!.
وإذا كانت قوى أساسيّة ومُقرّرة على الساحة الداخليّة، وفي طليعتها "حزب الله"، ترفض إجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة، تُعيد إنتاج السُلطة من جديد، وطالما أنّ الأفق مُقفل أمام عقد أيّ مؤتمر تأسيسي جديد، بسبب عدم وُجود ظُروف مؤاتيّة لهذا الأمر، فهذا يعني أنّ البديل عن تشكيل حُكومة جديدة، من شأنها إبطاء الإنهيار وتأجيل المشاكل الداخليّة إلى ما بعد ظُهور نتائج الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، يتمثّل بإستمرار الخلافات الحادة التي ستزيد من الإنقسامات البنويّة، والتي ستزيد من فداحة الخُطاب الطائفي والمذهبي من جديد. وكل يوم إضافي سيمرّ من دون توافق بالحد الأدنى على تسوية ظرفيّة موقّتة، سيترافق مع تغذية للتعصّب الطائفي والمذهبي، ومع مزيد من الإنغلاق والتقوقع...
في الخُلاصة، هل يُعقل أن يعود اللبنانيّون بعد أربعة عُقود من إنتهاء الحرب، إلى زمن الإنقسامات الطائفيّة وإلى زمن الخلافات على الصلاحيّات بين القوى المذهبيّة المُختلفة، وكأنّهم لم يتعلّموا شيئًا، وكأنهم لم يتقدّموا خُطوة على طريق الألف ميل؟! يبدو أنّ المآسي التي يعيشها الشعب اللبناني بكامله اليوم، لم تُعدّل واحدًا في المئة من نمطيّة تفكير "الزُعماء"، ومن إستخدامهم كل الوسائل للإحتفاظ بالسُلطة، بعيدًا عن أيّ مُواطنيّة حقيقيّة ومع تعويم كلّ الشعارات ما عدا شعار "لبنان أوّلا".
(1) منها طرح ثلاثة أثلاث على مُستوى وزراء الحُكومة (8 وزراء من أصل 24) لكل فريق سياسي أساسيضُمن الأغلبيّة النيابيّة الحاكمة حاليًا.
(2) بات حجم الكتلة بعد الإنسحابات المُتعدّدة التي حصلت منها، يقل عن ثلث عدد النوّاب المسيحيّين في المجلس النيابي.