إلى تصعيدٍ مُضاف، اتّجه الوضع الحكوميّ هذا الأسبوع، في ضوء "حرب البيانات" الناريّة التي توسّعت لتدور رحاها بين رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري، بعدما كانت محصورة منذ أسابيع طويلة بين عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري.
صحيحٌ أنّ "الكيمياء مفقودة" بين عون وبرّي، كما يدرك القاصي والداني، وصحيح أنّ لبعبدا "تحفّظاتها" على "الأستاذ" الذي سبق أن أعلن جهارًا تحيّزه للحريري، "ظالِمًا أم مظلومًا"، وصحيح أيضًا أنّ برّي لا يخفي "معارضته" لعون، الذي لم ينتخبه أصلاً للرئاسة.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ أحدًا لم يكن يتوقّع أن يصل "الاشتباك" بين الجانبين إلى الحدّ الذي تمظهر في "تراشق" البيانات، حتى أنّ هناك من استبشر خيرًا بنفي رئاسة مجلس النواب الثلاثاء ما نُسِب إلى "مصادر" ردًا على بيان بعبدا، معتقدًا أنّ الأمور ستقف عند هذا الحدّ.
ومع تجاوز الأمور ما كانت تُصنَّف "خطوطًا حمراء"، وتوالي الاتهامات بين الجانبين، طُرِحت كالعادة علامات استفهام عن موقف "حزب الله" الذي بدا مرّة أخرى "متفرّجًا" على صراع حليفيْه اللدوديْن، من دون تقديم أيّ مبادرة أو وساطة، أقلّه لرأب الصدع.
فهل يكتفي "حزب الله" بـ"الصمت"، مراهنًا على "هدوء الجبهات" النسبيّ الذي سُجّل في الساعات الأخيرة، وعلى أنّ الأيام "كفيلة" بإنهاء ذيول الأزمة المستجِدّة، أم يكسر "انكفاءه"، خصوصًا بعدما ناله من "السهام" ما يكفي أصلاً في الآونة الأخيرة؟
"ذنب" عون أو برّي؟
في أوساط "حزب الله"، يُطرَح سؤالٌ عريض منذ "انفجار الجبهة" المستجدّ بين عون وبرّي، والذي جاء بعد فترة طويلة من "الهدوء النسبيّ"، الذي فرضته ربما "المساكنة القسريّة"، رغم أنّ أحدًا لم يصدّق "الوهم" القائل بأنّ الرجلَين طويا صفحة الماضي غير البعيد، وما تخلّلها من "حروب" صغرى وكبرى، وباتا على "وئام كامل".
يبدو السؤال مشروعًا، خصوصًا أنّ "حرب البيانات" التي دارت بين عون وبرّي، بدت "مُستنسَخة" عن المعارك التي ملّ منها اللبنانيون على امتداد الأشهر الماضية، لكن مع استبدال أحد أدوار "البطولة"، بعدما "تنازل" عنه الحريري، طوعيًا ربما لصالح برّي، الذي لم يتردّد في إظهار قدراته الخطابيّة، التي لا يُعتقَد أنّها موضع شكّ عند أحد، من الحلفاء والخصوم.
لكنّ الحقيقة أنّ هذا السؤال، كغيره، يبقى دون جواب، إذ يُحال سريعًا إلى سياسة "تقاذف المسؤوليات" التي يتقنها كلّ فرقاء السياسة. فبالنسبة إلى فريق "العهد" مثلاً، لا شكّ أنّ برّي هو من يتحمّل المسؤوليّة بردّه المباشر والناريّ وغير المسبوق على بيانٍ رئاسيّ كان الهدف منه تسجيل موقف لا أكثر، ولم يأتِ أصلاً على ذكر رئيس مجلس النواب بالاسم، وإن غمز إليه بوضوح من باب رفض أيّ مبادرات تؤدّي إلى "تحجيم" صلاحيّات الرئيس.
وفي المقابل، يستند المحسوبون على بري إلى مقولة "البادي أظلم" لتحميل فريق الرئاسة المسؤوليّة كاملة عن "حرب البيانات" بالجملة، مشيرين إلى أنّ عين التينة لم تفهم حتّى الآن خلفيّات بيان مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية الذي ارتأى التصويب على مبادرة أجمع كلّ الفرقاء على أنّها تشكّل "الفرصة الأخيرة" لحلّ المأزق الحكوميّ، وفي عزّ محاولات "إحيائها"، علمًا أنّ أيّ ملاحظات عليها كان يمكن أن تُناقَش داخل الغرف المُغلَقة.
ويرى هؤلاء، انطلاقًا من ذلك، أنّ عون هو الذي ينبغي أن يُسأَل عن سبب "التصعيد"، وليس برّي، الذي كان من غير المنطقيّ ولا الواقعيّ ولا الطبيعيّ، أن يتوقّع أحد أنّه سيبقي بيانًا مثل بيان الرئاسة يمرّ دون ردّ، ولو أنّ اسمه لم يَرِد فيه حرفيًا، إلا أنّه كان واضحًا بين سطوره، وهو ما قرأه حتى "الجاهلون" في علم السياسة، الذين لم يجدوا تفسيرًا للبيان سوى "بحث عن مشكل"، قد ينطبق عليه القول إنّ عون "لا يريد حكومة"، وفق ما ذهبت بعض التحليلات.
أين "حزب الله"؟
مع انفجار الصراع بين "الحليف وحليف الحليف"، عادت التساؤلات التي باتت "موسميّة" ربما عن موقع "حزب الله"، والدور الذي يلعبه لرأب الصدع والتقريب بين حليفيه، في وقتٍ لم تعد فرضيّة "عدم المَوْنة" تقنع كثيرين، وسط اعتقادٍ يرجّح كثيرون كفّته، بأنّ "الحزب" القادر على فرض الكثير من الأمور محليًا وإقليميًا، قادرٌ بلا شكّ على "دوزنة" اللعبة الداخليّة بين حلفائه، إن لم يكن بالإكراه، فعلى الأقلّ عبر الإقناع.
وللردّ على السؤال، بحث كثيرون عن مواقف لـ"الحزب" في الساعات الماضية، فظهر موقفان لافتان بدل الواحد، أولهما لنائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، والثاني لكتلة "الوفاء للمقاومة". بيد أنّ المفارقة أنّ التمحيص والتدقيق بالموقفَين، يخلص إلى أنّهما لا يرتقيان أصلاً لصفة "الموقف"، لكونهما لم يخرجا، كالعادة، عن "العموميّات" المتمسّكة بوجوب تأليف الحكومة، وحلّ الخلافات والصراعات، دون زيادة أو نقصان.
ثمّة من يقول إنّ "حزب الله" يلعب دورًا للتهدئة، لكنّه دورٌ متروكٌ للكواليس وللخفاء، بعيدًا عن العَلَن، تفاديًا لأيّ "إحراج"، ولو أنّ الأزمة خرجت إلى العَلَن. وثمّة من يجزم بأنّ هذا الدور "أثمر" بدليل خفض حدّة الهجوم المُتبادَل، وتوقف "حرب البيانات"، فيما يؤكد آخرون أنّ "الحزب" لم يتدخّل فعليًا بعد، وأنّه ينتظر تكريس "التهدئة" إن جاز التعبير، ليحاول ترطيب الأجواء، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، من حالة "هدنة" يصحّ وصفها بـ"الهشّة".
في كلّ الأحوال، يقول العارفون إنّ "الحزب" في موقفٍ لا يُحسَد عليه، ولو كان يحاول "الهروب" دائمًا بتكرار ثابتة أنّه "لا يضغط" على حلفائه، مكتفيًا بـ"النصح والإرشاد"، إن جاز التعبير. ويشير هؤلاء إلى أنّ "الحزب" يدفع ثمن هذا "الحياد"، وقد ظهر "الامتعاض العونيّ" من أدائه أكثر من واضح في الأيام الماضية، فيما لا يبدو "الأستاذ"، ومن خلفه الحريري، راضيًا أيضًا، لاعتقاده أنّ "الحزب" وحده قادر على الحدّ من "عرقلة" الوزير السابق جبران باسيل.
قصّة "إبريق الزيت"
يرى البعض أنّها قصّة "إبريق الزيت" لا تكاد تهدأ، حتى تنفجر من جديد بين الفينة والأخرى، بين عون وبرّي، في ظلّ قناعةٍ راسخة لدى الجميع بأنّ الودّ هو "سابع المستحيلات" على خطّ العلاقة "القسريّة" بينهما.
مع ذلك، يُنظَر إلى السجال "الناريّ" بينهما هذا الأسبوع على أنّه مرحلة متقدّمة من الصراع، لما انطوى عليه من تراشق صريح ومباشر، مع اتهام عون لبري بالسعي لتحجيم صلاحياته الدستورية، واستنتاج الأخير أنّ الأول لا يريد تأليف حكومة أساسًا.
قد يتدخّل "حزب الله" فتتجدّد "الهدنة"، وقد لا يفعل، مراهنًا على "الزمن" الذي ينجح حيث يخفق كلّ الوسطاء ودعاة الخير. لكنّ الأكيد أنّ الصراعات والسجالات تدلّ مرّة أخرى على "عقم" نظامٍ لا يزال المسؤولون فيه يبحثون عن "الترقيع"، فيما البلاد تتخبّط في انهيارٍ شبه كامل، لا وجود لأيّ "آفاق" له!