بات من الواضح أنّ كلّ ما يحصل حالياً من احتدام للصراع السياسي والمصحوب باستنفار العصبيات الطائفية، بات على صلة بقرب استحقاق الانتخابات النيابية التي من المفترض أن تحصل بعد نحو عشرة أشهر من الآن، هذا إنْ جرت في موعدها، ولهذا فإنّ كلّ ما يدور من صراعات سياسية وتجاذبات طائفية حامية إنما تستهدف إطلاق العنان للاستقطاب الطائفي إلى أبعد الحدود، وبالتالي تعزيز موقع الزعامات الطائفية لحماية نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية وتجنّب تحمّلها المسؤولية عما تسبّبت به للبنانيين من انهيار اقتصادي ونقدي وإفلاس مالي وفساد وأزمات اجتماعية ومعيشية نتيجة سياساتها الريعيّة التي انتهجتها خلال سيطرتها على السلطة على مدى أكثر من عقدين… وبالتالي التغطية على ذلك عبر العمل على إعطاء الأزمة المتفجّرة أبعاداً طائفية ومذهبية، وحرف الصراع عن جوهره الاجتماعي الحقيقي، وإبعاد الأنظار عن الضغط الاقتصادي المالي الأميركي الذي عجّل بالانهيار وعمل ولا يزال بالاتفاق مع بعض أطراف الطبقة السياسية وشركات الأموال والمصارف على خنق لبنان ومفاقمة الأزمات النقدية والمعيشيّة والخدميّة، ومنع الحلول لها بهدف استثمارها سياسياً لتحقيق أهداف واشنطن في إخضاع لبنان للإملاءات والشروط الأميركية الغربية لتأليب اللبنانيين ضدّ المقاومة وسلاحها وفرض الهيمنة الأميركية الكاملة على لبنان..
وأكبر دليل على ما نقول، ما حصل مؤخراً من احتدام للصراع بين الرئاستين الثالثة والأولى ومن ثم بين الرئاستين الثانية والأولى حول تفسير دستور الطائف والصلاحيّات، بشأن تشكيل الحكومة، وذهاب الرئيس المكلف سعد الحريري إلى استنفار العصب الطائفي وتحشيد “الفاعليات السنية” والحصول منها على غطاء يعزز موقفه في مواجهة الرئيس ميشال عون والتيار الوطني بشأن شروط تشكيل الحكومة، وبالتالي امتلاك حصرية تسمية رئيس الحكومة بشخصه باعتباره “الزعيم السنّي” المتوّج من قبل المجلس الإسلامي الشرعي ومن أغلبية رؤساء الحكومات السابقين.. ما يعني تصلب الرئيس الحريري في موقفه الذي يحول دون الاتفاق مع رئيس الجمهورية لتأليف الحكومة، وإقفال الباب أمام الجهود المبذولة للخروج من الأزمة، وإبقاء البلاد ترزح تحت وطأتها إلى حين دنوّ موعد الانتخابات النيابيّة، بما يمكن الرئيس الحريري من تحقيق ما يلي، قبل تشكيل حكومة جديدة تشرف على إجراء الانتخابات:
أولاً، رفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية حتى لا يتحمّل هو أيّة مسؤولية عن التهاب الأسعار ومفاقمة الأزمة المعيشية…
ثانياً، تحميل عهد الرئيس عون والتيار الوطني المسؤولية عن عدم إيجاد الحلول للأزمة ووضع العراقيل امام تشكيل الحكومة، وبالتالي رمي كرة رفع الدعم واستعار نار الأزمات في أحضان العهد وإظهاره بأنه في ظله حصل الانهيار وجاع اللبنانيون، وذلك بهدف إضعاف التيار الوطني عشية الانتخابات لمصلحة خصومه في الشارع المسيحي لا سيما حزب القوات اللبنانية الذي بدأ الاستعداد مبكراً لخوض معركة الانتخابات لزيادة حصته من المقاعد النيابية على حساب التيار الوطني…
ثالثاً، جعل الانتخابات محطة جديدة لإعادة تعويم أطراف السلطة من بوابة شدّ العصب الطائفي وسلاح الخدمات، والعمل على العودة إلى الإمساك بناصية السلطة من خلال الحصول على أغلبية نيابية تمكنها من إحداث انقلاب على المعادلة السياسيّة القائمة، وإعادة إنتاج السلطة على القواعد التي تمكنها من تنفيذ الانقلاب الذي سعت إليه واشنطن منذ تفجّر احتجاجات 17 تشرين، وفرض الإملاءات والشروط الأميركية المبتغاة من هذا الانقلاب وهي:
1 ـ قبول شروط صندوق النقد الدولي لإقراض لبنان على نحو يجعل لبنان مرتهناً بالكامل للدول الغربية المانحة وشروطها السياسية التي تصبّ في خدمة سياساتها الاستعمارية وكيان الاحتلال الصهيوني.
2 ـ قبول ترسيم الحدود البحرية وفق الصيغة الأميركية التي تحقق الأطماع الصهيونية على حساب مصلحة وحقوق لبنان.. في مياهه الإقليمية الخالصة التي تحتوي على ثروة هامة من الغاز…
3 ـ تأليب البيئة الشعبية ضدّ المقاومة والعمل على محاصرتها بهدف نزع سلاحها وخصوصاً الصواريخ الدقيقة التي تحمي لبنان، وتردع العدوانيّة والأطماع الصهيونية..
لهذا فإنّ السعي الى تحقيق هذه الأهداف يتطلب زيادة منسوب الضغط الاقتصادي ومفاقمة أزمات اللبنانيين وجعلهم يعانون من فقدان الدواء وقلة البنزين وصولاً إلى جعلهم يرضخون لقرار رفع الدعم عن كلّ المواد والسلع الاساسية، وإطلاق العنان لمافيا الاحتكارات وإبقاء البلاد في حالة شلل تام من دون حلول، وبالتالي منع تشكيل الحكومة وتحميل التيار الوطني والعهد باعتباره حليفاً للمقاومة، المسؤوليّة عن حالة الشلل وغياب الحلول للاأزمات… وقد ساعد التيار الوطني خصومه، من قوى 14 آذار، عندما ارتكب أخطاء عديدة تجسّدت في انزلاقه إلى لعبة المحاصصة الطائفية وعقد اتفاق مع القوات اللبنانية، ومن ثم عقد التسوية مع الرئيس الحريري، وطي شعار “الإبراء المستحيل”، والذي أضعف موقفه الداعي إلى الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد.. مما جعل هذه القوى قادرة على النيل من مصداقيته، والتصويب عليه لإضعافه لكونه حليف حزب الله المقاوم، وهو الهدف الذي وضعه المسؤول الأميركي جيفري فليتمان في سياق خطة أميركية اعتمدت لمحاصرة المقاومة، ويتولى الرئيس الحريري وسمير جعجع العمل على محاولة تحقيقه بأمانة، من دون أيّ اكتراث لما يتعرّض له اللبنانيون من آلام ومعاناة، بل على العكس يجري توظيفها لأجل بلوغ هذا الهدف الأميركي الذي يصبّ في خدمة كيان العدو الصهيوني…