انتهت الانتخابات الرئاسية الايرانية بوصول اول رئيس ايراني موضوع قائمة العقوبات الاميركية، وهو ما يعني انّه من الفريق المتشدّد جداً. وانتهت الأزمة في اسرائيل، بعد النجاح في تشكيل حكومة هجينة يرأسها متطرّف، وعامودها الفقري من المتطرفين.
لكن، وبخلاف الاستنتاجات المتسرّعة، فإن وصول رئيس متشدّد الى الرئاسة الإيرانية سيشكّل ممراً آمناً الى الاتفاق مع الاميركيين حول الملف النووي. فالتحدّي الذي يرمز اليه إيصال رئيس اسمه مدرج على لائحة العقوبات الاميركية، هو في الواقع لتمرير الاتفاق لا ضربه. ذلك انّ صاحب القرار في ايران يبقى دائماً مرشد الثورة السيد علي خامنئي، الذي يريد الانتقال ببلاده من الضائقة الاقتصادية الخانقة، والتي تفاقمت أخيراً، الى رحاب فتح الاسواق وإنعاش اسواق البازار.
وبالتالي، فإنّ وصول ابراهيم رئيسي يمكن ترجمته بأنّه ولوج الى الاتفاق، ولكن من موقع التحدّي،ذ ولو من حيث الشكل على الاقل. وفي المقابل تستعد الادارة الاميركية لرفع معظم العقوبات الاقتصادية التي كانت قد فُرضت على ايران وفي وقت ليس ببعيد.
اما الحكومة الاسرائيلية الجديدة في اسرائيل، فهي مؤشر اضافي الى انّ الاجواء باتت اكثر نضجاً لإعلان العودة الى الاتفاق. صحيح انّ نفتالي بينيت ورفاقه هم من المتطرفين، لكن مشاكل الحكومة الاسرائيلية الجديدة كبيرة ودقيقة، وهي لا تسمح بترف الشغب على إدارة بايدن.
بنيامين نتنياهو كان قادراً على ذلك، ولو تحت سقف معين. فحكومته كانت متجانسة وتبايناتها معقولة. وبرحيل حكومته تراجع القلق حيال خطوات اسرائيلية متهورة. اذاً، فإنّ الاعلان عن الاتفاق مع ايران اصبح على الابواب ويبقى اختيار التوقيت الملائم بدليل المؤشرات التالية:
1- ما ان أنهى الرئيس الاميركي لقاءاته في اوروبا حتى اعلنت واشنطن سحب معظم انظمتها الدفاعية الجوية من بلدان عدة في الشرق الاوسط، وهي العراق والكويت والاردن والسعودية، وتقليص اسراب الطائرات الحربية.
وقد تزامنت هذه الخطوة مع انتخاب الرئيس الإيراني الجديد، وهو ما يعني تضاؤل خطر الاعمال العسكرية. واذا ما نظرنا الى البلدان المعنية، فإنّها جميعاً تقع في المجال العسكري والصاروخي لإيران. والإستنتاج المنطقي بأنّ شيئاً ما جرى التفاهم عليه بشكل حاسم في كواليس المفاوضات، جعل واشنطن تعتقد انّ انظمتها الدفاعية اصبحت بلا فائدة.
2- فور اعلان فوز ابراهيم رئيسي، جرت الدعوة لاجتماع لمساعدي وزراء خارجية الدول الاعضاء في المفاوضات النووية، تمهيداً للتحضير للجولة السابعة من المفاوضات، والتي ستُعقد قريباً جداً، وحيث يتردّد بأنّها ستكون الجولة النهائية.
3- ما نقلته صحيفة «النيويورك تايمز» الاميركية عن احد اقرب مساعدي بايدن، بأنّ الوقت حان للتوصل الى اتفاق مع ايران.
4- ما ابلغته سلطنة عمان لبعض الدول العربية المعنية، بأنّ ولادة الاتفاق النووي لم يعد بعيداً.
5- الهمس حول تسويات تشمل ملف اليمن باتت جاهزة.
6- اعلان وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف عن امله بالتوصل الى اتفاق حول الملف النووي قبل منتصف آب المقبل.
لا شك انّ اعادة العمل بالاتفاق النووي سيشكّل بداية حقبة جديدة في الشرق الاوسط.
ذلك انّ النسخة الجديدة للمفاوضات الاميركية - الايرانية لا بدّ ان تكون قد لحظت في صلبها الثغرات التي شابت الاتفاق الاساسي. فمن البديهي الاستنتاج بأنّ ثمة اتفاقاً على آلية تحصّن ديمومة العمل بالاتفاق وتمنع تكرار ضربه في المستقبل، تماماً كما حصل مع الرئيس السابق دونالد ترامب.
وكذلك لا بدّ ان تكون قد حصلت تفاهمات سياسية ولو وفق عناوين عريضة تتعلق بالمنطقة، وتهدف الى الانطلاق بواقع جديد، وهذا ما يفسّر الى حدٍ بعيد التواصل السعودي - الايراني. صحيح انّ طهران كانت قد رفضت ان تشمل مفاوضات فيينا ملفي الصواريخ والنفوذ الايراني في المنطقة، وهو ما أثار غضب بنيامين نتنياهو، لكن لا بدّ ان يكون قد جرى وضع تفاهمات معينة، سمحت بسحب انظمة الدفاع الجوي الاميركي والتخفيف من القوات الاميركية في الشرق الاوسط.
رغم ذلك، فإنّ من المبكر الاعتقاد بأنّ الانفراج اقترب من لبنان. في الواقع، فإنّ الملف اللبناني هو تفصيل بالمقارنة مع ملفات المنطقة، ولكنه تفصيل مهم.
أخيراً ساد اعتقاد اوروبي بأنّ الأزمات التي تخنق لبنان باتت على وشك تفجير البلد وفرطه. وانّ ما يحصل ليس وليد فساد وسوء المسؤولين وتغليبهم لمصالحهم الضيّقة على المصلحة العامة، لكن ايضاً هنالك يد خفية تدفع بالامور الى الفوضى الشاملة والعارمة وتحلّل مؤسسات الدولة، املاً في الذهاب الى انتاج نظام سياسي جديد بالتزامن مع خطة اعادة رسم الخارطة السياسية في المنطقة، ولا سيما في سوريا.
في الواقع، لا يوجد قبول في العواصم الغربية لإعادة انتاج نظام سياسي جديد في لبنان لألف سبب وسبب، خصوصاً حول ما يتعلق بالمصالح الدولية اكثر منه بالتنوع الطائفي في لبنان والامتيازات السياسية وتوازناتها. من هذه الزاوية فُهم الضغط الذي تتعرّض له المؤسسة العسكرية، ولذلك جاء مؤتمر دعم الجيش اللبناني. والمقصود هنا دعم معنوي دولي وليس فقط دعماً مادياً.
ولذلك ايضاً، باشرت اللجان المختصة في مجلسي النواب والشيوخ في واشنطن حركتها في هذا الاطار.
وترافق ذلك مع كلام غربي في الكواليس الديبلوماسية، بأنّ دفع البلد الى الانهيار الشامل والى قعر الهاوية لن يعني ابداً أخذ الوجهة باتجاه مؤتمر تأسيسي بل باتجاه الامم المتحدة والتدويل، ولكن هذا لا يعني التدخّل عسكرياً في لبنان تحت الفصل السابع، فهذا غير وارد لا من قريب ولا من بعيد، انما وضع وصاية اقتصادية ومالية وادارية على لبنان، من خلال المؤسسات التي تعمل تحت عباءة الامم المتحدة، مثل المؤسسات المالية وغيرها.
اما البديل، فهو تمرير الوقت بأقل الاكلاف الممكنة، قبل الشروع في تفاهمات غير مباشرة مع «حزب الله»، حول ضمانات المرحلة المقبلة، والتي تتطلب على سبيل المثال ترسيم الحدود البحرية وكذلك البرية الجنوبية للبنان، اضافة الى الحدود مع سوريا، والتي ستكون مضبوطة. اضف الى ذلك مطار بيروت واعادة اعمار مرفأ بيروت وفق معايير جديدة. ولم يعد خافياً الدور الذي اقرّته واشنطن لأوروبا في لبنان وتحديداً عبر فرنسا بدرجة اولى ومعها المانيا.
وجاءت زيارة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي جوزيب بوريل الى لبنان، في اطار الاهتمام الاوروبي بالتخفيف من عمق الأزمة الحكومية، سعياً لمنع البلد من الانفجار الكامل. صحيح انّ بوريل وجّه رسائل حازمة، لكن المطلعين يضعونها في اطار الجولة الاستكشافية، ذلك انّ هذه الزيارة تقرّرت منذ فترة، وتحديداً عندما كان لا يزال شربل وهبه وزيراً للخارجية، وبالتالي لا علاقة لها بأي ظرف آخر مستجد. وسيقدّم بوريل تقريره حول زيارته الى اجتماع الاتحاد الاوروبي والذي سيُعقد اليوم في بروكسل.
وبالتالي، فإنّ الرسائل والاشارات التي تضمنتها جولته تندرج في اطار الرؤيا العامة، لا سيما في موضوع العقوبات الاوروبية. اذ انّ هذا الخيار لا يزال يفتقر الى الإجماع، وبالتالي فلا امكانية لتطبيقه قريباً، وربما قد تصدر توصية، لكنها ستبقى تفتقد الى الآلية التطبيقية.
لكن لا بدّ من الإشارة الى رسالتين اساسيتين ومعبّرتين حملتهما زيارة بوريل.
الاولى: موافقته الضمنية بأنّ رئيس الجمهورية هو من بين المعرقلين للولادة الحكومية، وهو ما تضمنه جوابه الملتبس رداً على اسئلة الصحافيين في قصر بعبدا.
والثانية: عدم لقائه بالأحزاب اللبنانية، واستبدال ذلك بلقاء مع شخصيات مستقلة، مكرّراً بذلك برنامج وزير الخارجية الفرنسية خلال زيارته الاخيرة الى لبنان. والرسالة المكرّرة هنا واضحة المعاني، بأنّ الرهان هو على طبقة سياسية جديدة يجب ان تولد من رحم الانتخابات النيابية المقبلة.