لم تكد تمرّ أيام على "حرب البيانات" بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي أخذ دور "البطولة" بالوكالة أو ربما الأصالة، نيابةً عن رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، حتى شهد اللبنانيون على "حرب بيانات" جديدة، وبصيغةٍ مختلفة عمّا سبقها.
هذه المرّة، انضم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع إلى "المعركة"، بعدما نجح الوزير باسيل في "استدعائه"، أو ربما "جرّه" إليها، من خلال مؤتمره الصحافي الذي صوّب فيه بشدّة على "الحكيم"، متّهِمًا إياه بالتخاذل والتقصير في الدفاع عن حقوق وصلاحيّات المسيحيّين، واصفًا الأمر بأنّه "جريمة".
سريعًا، ردّ جعجع، "مفنّدًا" ما جاء في مؤتمر باسيل، رافضًا "مزايدات" الأخير، و"استقواءه" بالسلاح، ليردّ "الوطني الحر" على الردّ، مستعيدًا "الزمن الإسرائيليّ"، متّهمًا رئيس حزب "القوات" بممارسة ما "اعتاد عليه" منذ ذلك الوقت، على مستويات التحوير والتزوير، والاغتيال السياسيّ قبل كلّ شيء.
وبين هذا وذاك، أسئلة تطرح نفسها، فكيف انتقلت "المعركة" من ضفّةٍ وأخرى؟ وما دلالات فتح "جبهة" جديدة في هذا "الوقت الضائع"، إن جاز التعبير؟ وكيف "يُصرَف" السجال المستجدّ في المعادلات السياسية القائمة حاليًا؟!.
رسائل "ملطّفة" إلى "الثنائيّ"
عندما أعلن رئيس "التيار الوطني الحر" عن نيّته عقد مؤتمر صحافيّ، في ذروة "الاشتباك" حول "مبادرة" رئيس مجلس النواب، وفي عزّ الانتقادات الصريحة التي لم يعد نواب وقياديو "التيار" يوفّرون "حزب الله"، الحليف الصامد الوحيد، منها، ظنّ كثيرون أنّ "الثنائي الشيعي" سيكون المُستهدَف الأول برسائل باسيل.
ساد الاعتقاد بأنّ المؤتمر سيكون مخصَّصًا بالكامل لتفنيد "مبادرة" بري، وإفراغها من محتواها، نتيجة ما يعتبره "العونيّون" انحيازًا يعرّي "الأستاذ" وينزع عنه صفة "الوسيط"، ولكن أيضًا لنقد "حزب الله" صراحةً وجهارًا، ومطالبته بأخذ موقف واضح وحاسم لا لبس فيه، يحدّد فيه تموضعه بوضوح، بجانب بري والحريري، أو عون وباسيل، على طريقة "إما أبيض أو أسود".
لكن، ما خلا بعض الإشارات التي بدت أقرب إلى "الغمزات"، وربما "رفع العتب"، غرّد باسيل في سربٍ آخر. صحيح أنّه انتقد مسار "مبادرة" بري، وما تظهّر في الأيام الأخيرة من أنّه "انحياز"، لكنّه لم "يتشدّد" في انتقاد الأخير، حتى أنّ رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري نفسه "حُيّد"، نسبيًا، عن هجوم باسيل، بعيدًا عن مبدأ "المثالثة" الذي خصّص له الحيّز الأكبر.
أما "حزب الله"، فبدل أن يخاطبه باسيل من موقع "قوّة" كما أوحى بعض "العونيّين" في الأيام الأخيرة، ممّن ذهب بعضهم إلى حدّ رفع سقف "التحدّي"، والتلويح بالتخلّي عنه إذا ما بقي على موقفه، إذا برئيس "التيار" يسايره، مغدقًا في الثناء عليه، حتى أنّه أحال أمره إلى أمينه العام السيد حسن نصر الله، مرتضيًا سلفًا بما يقبله الأخير لنفسه، مضيفًا أنّ هذا "آخر كلام" له في الحكومة.
صحيح أنّ هناك من قرأ في هذا الكلام "محاولة إحراج" للسيد نصر الله، وللحزب ككلّ، يعبّر في مكانٍ ما عن "امتعاض شبه مُعلن" من جانب "التيار" من الأداء "الرماديّ" الذي يمارسه الأخير، الذي يتمسّك بالحريري رئيسًا مكلَّفًا للحكومة بلا أيّ بديل، إلا أنّ الرسالة بقيت في كلّ الأحوال "ملطَّفة"، وفي ذلك أكثر من دلالة لا بدّ من التقاطها وتلقّفها.
"إنّها الانتخابات"!
في مقابل الرسائل "المَرِنة والملطَّفة" باتجاه ثنائيّ نصر الله وبري، ومن خلفهما الحريري نفسه، رسائل أكثر من قاسية وجّهها باسيل إلى "غريمه التقليدي"، و"شريكه" السابق في تفاهم معراب، رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي لم يتردّد الوزير السابق في مخاطبته بوصفه "مجرمًا"، على صعيد الاستهانة بحقوق المسيحيّين.
يقول "العونيّون" إنّ الهجوم على جعجع أكثر من مشروع، لأنّ "التيار" كان ينتظر من الأخير "وقفة حقّ"، بل "مساندة" في عملية "استعادة حقوق المسيحيّين" التي يتصدّى لها رئيس الجمهورية، بدل الوقوف في الصفّ المناهض له، بما يدعم أولئك الذين "لا تعجبهم" استعادة الدور المسيحي منذ العام 2005، كما قال باسيل في مؤتمره.
برأيهم، فإنّ ما يقوم به جعجع في هذا الإطار يرقى إلى مستوى "الجريمة" وأكثر، لأنّ عون وباسيل يُحارَبان بسبب استماتتهما للدفاع عن حقوق المسيحيّين، وبدل أن يقف الفريق المسيحيّ الثاني إلى جانبهما، يضع يده بيد الخصوم، مرتضيًا بتحجيم دور الرئيس وصلاحيّاته، وبحجب حقّه في الثلث المعطّل، بل بتكريس "مثالثة" غير مسبوقة في الحكم.
في المقابل، لا يرى "القواتيون" في هجوم باسيل سوى محاولة هروب إلى الأمام، عبر "التلطّي" مرّة أخرى بالمسيحيين وحقوقهم، لتحقيق ما لا يعدو كونه "مصلحة خاصة"، ومحاولة "استثمارها" شعبويًا بأسلوب "رخيص"، خصوصًا أنّ حقوق المسيحيين لا تُستعادَ بحصّة وزاريّة لا تقدّم ولا تؤخّر في ظلّ "الانهيار" الذي تتخبّط خلفه البلاد، في ظلّ "العهد القوي".
وبين هؤلاء وأولئك، ثمّة من يجد التفسير "الأكثر واقعية" للمعركة المستجدة، انطلاقًا من "الحسابات الانتخابية" التي يؤكد باسيل وغيره أنّها باتت تتقدّم على كلّ ما عداها، علمًا أنّ باسيل أعاد التلويح في المؤتمر نفسه بانتخابات مبكرة قد يتمّ اللجوء إليها في حال استمرار المراوحة، ولا شكّ أنّ "الخطاب الطائفي" يُعَدّ من "عدّة الشغل" الانتخابيّة كما يدرك القاصي والداني.
موسم الانتخابات يطغى
بدأ باسيل معركته الانتخابية إذًا، برأي شريحة واسعة من اللبنانيين، تضع مؤتمره الأخير، وتصويبه على جعجع بالتحديد، الذي "يحيّد" نفسه عن الشأن الحكوميّ برمّته، في إطار دواعي "الاستقطاب" الذي يسبق الانتخابات ويمهّد لها.
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ المعركة مع رئيس مجلس النواب أو رئيس الحكومة المكلف، على أهميتها، تبقى غير ذي جدوى، استنادًا إلى حسابات الانتخابات، كما أنّ التصعيد أو الترطيب مع "حزب الله" لا يقدّم ولا يؤخّر شيئًا في المعادلة أيضًا.
يدرك باسيل أنّ معركته الفعليّة الحقيقيّة، انتخابيًا، هي مع رئيس حزب "القوات اللبنانية"، منافسه الأول بين مناصري الأحزاب، طالما أنّ المعركة مع قوى المجتمع المدني والمستقلّين، "غير متكافئة"، ليس من ناحية القوة، ولكن انطلاقًا من طبيعة الجمهور المختلف.
بهذا المعنى، قد يكون المؤتمر الصحافي الأخير لباسيل "إيذانًا" ببدء معركة سياسيّة جديدة، "طويلة المدى"، تستحضر اللغة الطائفية بكلّ تجلّياتها، بانتظار انتخاباتٍ قد لا تغيّر الكثير في الخريطة العامة، لكنّ كلّ "تفصيل" فيها ستكون له دلالاته ومغازيه الكبرى!.