من 1500 ليرة لبنانية، إلى أكثر من 15000 ليرة للدولار الواحد، إرتفعت الأسعار المُرتبطة بسعر صرف العملة الخضراء عشرة أضعاف، والرقم في تزايد مُستمر يومًا بعد يوم، وحتى ساعة بعد ساعة! فكيف صارت قيمة رواتب شرائح واسعة من اللبنانيّين، وما هي التوقّعات للمُستقبل، والأهمّ هل ستُرفع المَعاشات قريبًا؟.
في 21 آب من العام 2017، تمّ تحديد الحدّ الأدنى للأجور في لبنان عند 675000 ليرة، وهو ما كان يُوازي في حينه 450 دولارًا. أمّا اليوم، فقد تراجعت قيمة الحّد الأدنى للأجور إلى أقلّ من 45 دولارًا شهريًا، أي إلى أقل من دولار ونصف الدولار في اليوم الواحد! إشارة إلى أنّ خط الفقر المُتعارف عليه عالميًا هو 1.9 دولار للفرد يوميًا، ما يعني أنّ شريحة واسعة من اللبنانيّين صارت فعليًا تحت خط الفقر والعوز، شأنها شأن الأفراد الذين يعيشون في دول تُعاني من المجاعات الجَماعيّة، وتعتاش من الإعانات الدَوليّة! ومن الضروري التذكير أنّنا نتحدّث عن الدخل الفردي، وليس العائلي، وبالتالي إذا كان الدخل الشهري بحدود 1350000 ليرة لبنانية لشخصين، أو بحدود 2025000 لثلاثة أشخاص، أو بحدود 2700000 لأربعة أشخاص، إلخ. تنطبق القاعدة نفسها، ويتبيّن أنّ شرائح واسعة من اللبنانيّين تعيش حاليًا تحت خط الفقر المُدقع.
يُذكر أنّ راوتب موظّفي القطاع العام من الفئتين الخامسة والرابعة وجزء من الفئة الثالثة أيضًا، وموظّفي القوى الأمنيّة والأسلاك العسكريّة (حتى رتبة نقيب)، والنسبة الأكبر من العاملين والمُوظّفين في القطاع الخاص وفي القطاعين الصناعي والتجاري، تتقاضى رواتب شهريّة تقل عن 3 ملايين ليرة لبنانية، وهي معنيّة مُباشرة بهذه الإحصائيّة. أكثر من ذلك، تخيّلوا أنّ المُتخرّجين الجُدد من القُضاة يتقاضون راتبًا وقدره 4.5 ملايين ليرة، أي ما يُوازي حاليًا أقلّ من 300 دولار أميركي في الشهر، في الوقت الذي يُطلب فيه من الجسم القضائي أن يكون نزيهًا وشفافًا ومُنزّهًا عن المصالح وعن التبعيّة للسياسيّين. ومع إستمرار إرتفاع سعر صرف الدولار، والذي يترافق مع إرتفاعات جُنونيّة في أسعار السلع والمواد والخدمات على إختلاف أنواعها، إضافة إلى إرتفاع أسعار المُشتقّات النفطيّة وما يواكب ذلك من إرتفاع لفواتير البنزين والكهرباء وغيرهما، تسقط فئات إضافيّة من اللبنانيّين تحت خطّ الفقر. ولم يعد الحديث يقتصر هنا على ضائقة إقتصاديّة وماليّة، بل صار مُرتبطًابفقر حقيقي وبعوز فعلي شديد القساوة.
وبإستثناء قلّة من اللبنانيّين تُقدّر بنحو 5 % تتقاضى رواتبها بالدولار، وقلّة أخرى تُقدّر بنحو 5 % أيضًا تتقاضى رواتبها مُناصفة بين الدولار والليرة، أو وفق سعر الصرف المُحدد في التعميم رقم 151 من مصرف لبنان والبالغ 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد، فإنّ إنهيار القيمة الشرائيّة للرواتب بشكل كامل، بات يطال أغلبيّة ساحقة من اللبنانيّين.وعلى الرغم من هذا الواقع المُزري، والمُرشّح إلى التفاقم أكثر فأكثر في المُستقبل القريب، لأسباب سياسيّة واضحة للجميع، ولأسباب إقتصاديّة-ماليّة علميّة، لا زيادة مُرتقبة في المدى المَنظور للرواتب والأجور. فأيّ إجراء من هذا النوع حاليًا، وقبل عودة الإستقرار السياسي إلى البلاد، وقبل البدء بتطبيق خُطّة إصلاحيّة واضحة المعالم بمُواكبة المُجتمع الدَولي وبُمساعدة ماليّة منه، يعني عمليًا قيام مصرف لبنان بطبع المزيد من المليارات من دون أي تغطيّة، ما سيتسبّب فورًا بمزيد من التضخّم وبمزيد من الإنهيار السريع لقيمة العملة الوطنيّة. أكثر من ذلك، إنّ القطاع الخاص غير قادر بجزء كبير منه على مُواكبة أي زيادة لرواتب القطاع الرسمي، وسط ظُروف العمل الحالية. والأخطر من كل ما سبق، أنّ قسمًا كبيرًا من اللبنانيّين يُصنّف حاليًا ضُمن فئة العاطلين عن العمل، وكلّ زيادة في الأسعار تعني غرق هذه الفئة أكثر فأكثر في الديون وفي حالات الفقر والعوز واليأس من كل شيء!.
وأمام إستحالة زيادة الرواتب والأجور حاليًا، بغضّ النظر عن قيام بعض المؤسّسات الخاصة برفع رواتب موظّفيها والعاملين لديها لمُساعدتهم على الصُمود معيشيًا-ولوّ بشكل مرحليّ، إنّ طريق الحل واضح المعالم، وهو يبدأ بتشكيل حُكومة غير تقليديّة، قادرة على إعادة أجواء الثقة، وعلى التفاوض مع المُجتمع الدَولي لجلب المُساعدات والقروض الماليّة العاجلة، وعلى إطلاق خُطة نهوض إقتصاديّة وماليّة بالتوازي مع خطة إصلاحيّة تُوقف الهدر والفساد وتُحاسب المُرتكبين والسارقين.
في الختام، إنّ خطة الإنقاذ المَذكورة تدخل عمليًا ضُمن أحلام اليقظة، أمّا في الواقع المرير الذي نعيشه، فأقصى ما يُمكن توقّعه من هذه السُلطة مُجتمعة، هو مُجرّد ترقيعات لكسب الوقت لا أكثر ولا أقلّ، ومُحاولات مُتبادلة للتنصّل من المسؤوليّة ولرميها على الآخرين، في إنتظار موعد الإستحقاقات الإنتخابيّة التي ما لم تخلط الأوراق الداخليّة جذريًا، فهي ستدقّ المسمار الأخير في نعش الإنهيار المُتواصل، مع توقّع أن يتمّ عندها صرف ما تبقّى من أموال الإحتياط الإلزامي لدى المصرف المركزي، وُصولاً بعد ذلك إلى تسييل سبائك الذهب وبيعها، ومن ثمّ إلى تخصيص أملاك ومؤسّسات الدولة وبيعها أيضًا...