"طالما الجبل بخير، لبنان بخير"، مقولة ردّدتها في مناسبات عديدة، ومن منابر متنوعة، وأرددها مجدّدًا اليوم.
تحضر أمامي حادثة حصلت معي منذ سنوات، حيث وصل إلى مسمعي، أن المطران بولس مطر السامي الإحترام، رئيس أساقفة بيروت للموارنة آنذاك، قرر نقل كاهن رعية الشويفات المارونية الأب شربل ديب، وتعيين كاهن جديد مكانه. طبعًا تدبير طبيعي في الكنيسة، لكن أن يكون هذا الكاهن خادمًا لأبناء الرعية المارونية في الشويفات، ومتفاعلًا مع الأخوة الموحّدين في هذه المدينة المميزة، التي لها خصوصية إستثنائية على صعيد العيش الواحد، وعلى صعيد التواصل اليومي مع خادم الكنيسة الأرثوذكسية في الشويفات، ومع مشايخ طائفة الموحّدين، في سبيل خلق مناخ مريح وإيجابي لكافة الشرائح التي تكوّن هذه المدينة، فهي نموذج حيّ لهذا الوطن.
قرار المطران مطر، حمل بعض المشايخ الأجلاء إلى التواصل معي للإستفسار، مقترحين أن نزور سيادته في دار المطرانية لمعرفة الأسباب والوقوف على خاطره.
أذكر أن المطران مطر كان يستعد للسفر إلى روما بعد ظهر ذلك اليوم، لكنّه لبّى طلبنا واستقبلنا، وكان محققًا لرغبتنا بإبقاء الخوري شربل في الشويفات، لما له من معرفة لخصوصية أهل المنطقة، وتعاونه مع هيئاتها الروحية والزمنية.
سردت هذه الواقعة، لكي أضيء على فرادة منطقة الجبل، على كافة الصعد والمستويات. وما الحدث الذي تشهده دارة خلدة اليوم، يزيدنا ثقة بأن منطقة الجبل، بتفاهم مرجعياتها الدرزية، يحفّزنا على التعلق أكثر وأكثر على البقاء والعيش معًا. فالتفاهمات والتسويات من ضرورات البقاء والصمود في وجه التحديات.
وانطلاقًا من معرفتي الشخصية بالزعيمين، الأمير طلال إرسلان ووليد بك جنبلاط، أشهد على حرصهما الدائم على التواصل والتفاعل مع شركائهم المسيحيين في هذا الجبل، ومن الطبيعي أن ينضم إليهما الأستاذ وئام وهاب.
هذا الحرص ليس وليد الساعة، وقد ترجماه مؤخرًا وبإلحاح، عبر المسؤولين في الحزبين الاشتراكي والديمقراطي، إذ تواصلا معنا منذ بداية الثورة وجائحة الكورونا، ومع اشتداد الأزمة الإقتصادية وتفاقمها، ولم يفرقا أو يميزا بالمساعدات بين مسيحي ودرزي. طبعًا دون أن أنسى باقي الأحزاب والجمعيات، وبعض الأفراد الميسورين وبلدية الشويفات، رئيسًا وأعضاء. والحق يقال، أني شعرت فعلًا بانتمائنا إلى عائلة واحدة، إسمها الشويفات.
فمن الشويفات كادت بوادر الفتنة تنطلق إلى كل الجبل، وقد سقط شهداء ننحني لدمائهم الطاهرة، فمن الطبيعي أن تنطلق منها، راية التفاهم والتسويات، وحمل لواء السلام والأمان، ليبقى الجبل موحدًا، وبالتالي نصون الوحدة الوطنية.
إن ما يحدث في دارة خلدة اليوم، يجب أن يكون نموذجًا تحتذي به كل المرجعيات في لبنان، وأن يكون قدوة لكافة المتناحرين والمتخاصمين على مساحة الوطن.
كفانا ذلاً وقهرًا. كفانا دمًا وسقوطَ أبرياء. كفانا هجرة وتهجيرًا. كفانا تغييرًا ديموغرافيًّا. كفانا تحقيرًا لهذا الشعب اللبناني الطيب العاشق الحياة والمحب للعيش بكرامة. كفانا استعطاءً. وكفانا أزماتٍ إقتصاديةً وماليةً وسياسيّةً. كفى لحروب الآخرين على أرضنا. "دعوا شعبنا يعيش". إقتدوا يا مسؤولون بإخوتنا الموحّدين، والذي أرجو لهم التوفيق في مبادرتهم للم الشمل، وبهذا تكون دماء الأحباء الذين سقطوا شهداء، لم تذهب هدرًا.
هذا اللقاء قد يُفرح البعض، وقد يزعج البعض الآخر، لكن بالمحصّلة، سيخدم وحدة الجبل وسيخدم أهل الجبل بكل أطيافهم، آملين أن يكون لقاءً مثمرًا على كافة الصعد والمستويات، وإلى أمد بعيد، وألاّ يسقط كما سقط غيره. فأيّ لقاء من هذا النوع، كفيل بوأد أي فتنة، مصدرها الداخل أم الخارج.
وإنطلاقًا من إيماننا برسالة التسامح والغفران، وإيمانًا بقول يسوع في الإنجيل: "وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ"(لو 11: 9)، نصلّي في كل قدّاس من أجل السلام في لبنان وقلوب اللبنانيين وخلاصهم من كل شدة وحزن وضيق وغضب وخطر ومرض ووباء. فكم بالأحرى، رفع الدعاء من أجل مدينتنا وأهلها والمؤمنين القاطنين فيها، ومن أجل هذا الجبل الأشم بالأخص، حتى يبقى موحَّدًا ومصانًا من كلّ المشاكل والمصائب والأحزان، بدعاء مشايخه الأجلاء أصحاب العمائم البيضاء الطاهرة، وبصلوات الكهنة الورعين، ووعي الناس وحكمة الزعماء والمرجعيات، والسلام.