اجتهد عمّال الفلسفة، على مرّ التّاريخ، على تحرير العقل من سلطة الوصاية، إلّا أنّهم لم يستطيعوا تحرير الإنسان من عقليّة العبد المتربّصة في كيانه، ممّا حدا شرعة حقوق الإنسان (1948) في المادّة الرّابعة، إلى إدانة الاستعباد: "لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده. ويحظّر الرّقّ والاتجار بالرّقيق بجميع صورهما".
وبالعودة إلى الأيّام الغابرة، نجد أنّ الإغريق قد عرّفوا الحرّيّة باللّاعبوديّة الّتي تجتاح الإنسان، على المستويات كافّة. فما إن يتحرّر من مفهوم حتّى يجد نفسه عبدًا لمفهوم آخر. في ملء الأزمنة، أتى السيّد المسيح ليحرّر الإنسان، أيضًا، على المستويات كافّة. فعندما قال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، انتزع من قيصر صفة الألوهة، واستعباد الشّعوب بغطاء إلهيّ. كما دعا المسيح إلى تحرير الإنسان من الشّريعة نفسها، وقد اختصرها بقوله إنّ "السّبت للإنسان وليس الإنسان للسّبت". وقد كلّل تحرير الإنسان بعلاقته مع الله، إذ قال لتلاميذه: لا أدعوكم عبيدًا بعد اليوم بل أحبّائي. وعندما سألوه عن الصّلاة، قال يسوع إنّ "الله أباكم يعرف ما تحتاجون إليه". وعلّمهم الصّلاة الأبسط في التّاريخ، والأعظم على الإطلاق: "أبانا الّذي في السّموات...". لقد حافظت الكنيسة، من بولس الرّسول إلى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، ولا تزال إلى يومنا، مع البابا فرنسيس على العمل على تحرير الإنسان حتّى من عبوديّته لنفسه، ولملذّاته الجسديّة؛ وما الصّلوات والتّقشّفات والأصوام إلّا الطّريق الّذي يسعف الإنسان في مسيرته على هذه البسيطة.
ومن نافل القول بأنّ العبادات الرّوحيّة ليست لتصغير الإنسان، ولا لتعظيم الله الغنيّ عن تسابيحنا وتمجيدنا، إنّما لرفع الإنسان إلى مستوى الملكوت السّماويّ. وما قول السيّد المسيح للمرأة السّامريّة الّتي تعبد من تجهل "العابدون الصّادقون يعبدون الآب بالرّوح والحقّ" إلّا إثبات أنّ الصّلاة ليست فعل عبادة وحسب، إنّما فعل لقاء بالرّوح والحقّ. وإذا ما وجد لكلمة عبادة من دلالات أخرى، في عقول المؤمنين كالخنوع والقنوط، فلا يستحقّ أحد إذًا، أن يُعبد إلّا الله وحده. بيد أنّ الأنبياء والرّسل والقدّيسين مكرّمون نسبةً إلى الكنيسة، فمن غير المعقول أن يعبد الإنسان نفسه، فيكون عندئذ مريضًا، كما لا يحقّ لأيّ كان أن يستعبده، فكلّنا متساوون في الكرامة.
إذًا، يتطلّب الإيمان الحقيقيّ إرادة حرّة، وفعل محبّة في حفظ الوصايا الإلهيّة، "ليدوم فيكم فرحي ويكون فرحكم كاملًا"، كما قال السيّد المسيح، وإلّا تحوّل عبادة وثنيّة أو إلحاديّة لا تعرف الله.
فلا يكوننّ أحد فينا مستعبدًا لأحد، ولنحرّرنّ عقولنا من عقليّة العبد المستشرية في هشاشة إنسانيّتنا الّتي أتى المسيح ليحرّرنا منها، ويعيدنا باختيارنا إلى بناء علاقة بنويّة بيننا وبين الله الآب.