من يطّلع على بيان المجلس الأعلى للدفاع، بعد اجتماعه الأخير في قصر بعبدا، يشعر تلقائيًا بالخوف ممّا "يُحضَّر" للبلد، على المستوى الأمنيّ خصوصًا، وتحت ستار المطالب المعيشية والاجتماعيّة المُحِقّة، ولا سيّما "لقمة العيش" التي ينبغي أن توحّد اللبنانيّين.
في الاجتماع، بدا "التوافق والتناغم" سيّد الموقف بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وسائر المجتمعين، على أنّ هناك من يحاول "زعزعة الاستقرار"، وأنّ قطع الطرقات الذي بدأت بوادره في الأيام القليلة الماضية ليس "بريئًا".
تجلّى ذلك بوضوح شديد من خلال المقرّرات التي أفضى إليها الاجتماع، وعلى رأسها الطلب إلى الأجهزة العسكرية والأمنية الإبقاء على الجهوزية اللازمة لعدم السماح لبعض المخلّين بالأمن بزعزعة الاستقرار الأمني بسبب الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعيّة.
ويتقاطع ذلك، في جانبٍ كبير منه، مع ما يفصح عنه بعض المسؤولين السياسيّين والأمنيّين، عن "قلق كبير" من "مخطّطات" تُرسَم خلف الكواليس، ومن "انفلات أمنيّ" قد تشهده المرحلة المقبلة، معزَّزًا ومدفوعًا بفراغٍ سياسيّ لم يعد له أيّ مبرّر أو معنى.
إزاء ذلك، هل يمكن القول إنّ التحذيرات التي أطلقها المجلس الأعلى للدفاع "مشروعة"، أم أنّها تنطوي مرّة أخرى على محاولةٍ للقفز إلى الأمام، عبر "الترويع" من أيّ حراكٍ مطلبيّ عفويّ؟ وإلى أيّ مدى يمكن القول إنّ أبواب البلاد باتت مشرَّعة على "الفوضى"؟!.
الوضع "لا يُحتمَل"
لا شكّ أنّ ما تركه المجلس الأعلى للدفاع من انطباعات "سلبيّة"، استند إليها في تحذيراته، لم يأتِ من فراغ، ربما بخلاف حديث بعض الحاضرين لاجتماعه عن موسم صيفي "واعِد" لا مؤشّرات ملموسة له على الإطلاق، سوى ربما في "مخيّلة" البعض التي لا تعكس الحقيقة.
بهذا المعنى، قد يكون الخوف من "جنون" في مكانٍ ما مشروعًا، ليس بالضرورة بسبب "طابور خامس" لا أحد ينكر وجوده أو نواياه المبيّتة، ولا بسبب إمكانية تحوّل أيّ احتجاجاتٍ أو تحرّكاتٍ مهما كانت عفويّة ومُحِقّة عن طبيعتها وانحرافها عن مسارها.
لعلّ الخشية الأساسيّة تنطلق من الأوضاع العامة في البلاد التي وصلت إلى درجة "لا تُطاق"، في ضوء "الانفجار الاجتماعي" الذي أضحى واقعًا، شاء من شاء وأبى من أبى، في ظلّ الأزمات التي لا تنتهي، بل على العكس من ذلك، تتعقّد يومًا بعد يوم.
ولأنّ كل واحدةٍ من هذه الأزمات قادرة على "تفجير" ثورة، بالمعنى غير السلميّ، تصبح الخشية من "الانفلات الأمني" أمرًا طبيعيًا، فمشاهد "الإذلال" في محطات المحروقات والصيدليات وغيرها لا تُحتمَل، في وقتٍ نفد صبر المواطنين، الذين لا يزال هناك من يدعوهم للتمسّك به.
وقد يكون الأنكى من ذلك أنّ "مقوّمات" مثل هذا الصبر باتت هي الأخرى مفقودة، في ظلّ "التحليق الجنوني" لأسعار الدولار، كلما حاول اللبنانيون التأقلم معها، وفي وقت يكاد يضرب لبنان الرقم القياسيّ العالميّ على مستوى الحدّ الأدنى للأجور، كما معدّلاتها.
ويترافق كلّ ذلك مع "جمود" سياسيّ يجوز وصفه بـ"القاتل"، طالما أنّه يقترن بـ"عدم اكتراث" من جانب السلطة السياسية، التي لا تزال تتمسّك بمقاربةٍ واحدةٍ للملف الحكومي منذ أكثر من عشرة أشهر، قوامها من يصمد أكثر، ومن ينجح في انتزاع "حصّة الأسد" من المغانم.
ما هي "حلول" السلطة؟
لكلّ ما سبق، تبدو خشية السلطة "مشروعة"، هي التي باتت على يقين أنّ "الانتفاضة" عليها أصبحت "تحصيلاً حاصلاً"، وقد دلّت عليها بوضوح نتائج انتخابات نقابة المهندسين أخيرًا، بل إنّ هناك في صفوف السلطة من يستغرب صمود "الصمت الشعبيّ" حتى اليوم.
وبمُعزَلٍ عن "حسن نوايا" السلطة في تحذيراتها، يرى كثير من العارفين أنّ الخطر الذي تحذّر منه قد يكون "بديهيًا"، فالساحة اللبنانية قد تشكّل في هذه المرحلة "مسرحًا مثاليًا" للفوضى التي يدرك القاصي والداني أنّها تعتاش من الأزمات، كالتي يواجهها لبنان اليوم.
لكن، بموازاة التحذير والقلق والخوف، ما الذي تقدّمه السلطة لمنع "الانفجار" الأمنيّ الناتج عن ذلك الاجتماعيّ والسياسيّ؟ وأيّ "حلولٍ" تقترحها السلطة من شأنها أن تَقي البلاد شرّ "الفوضى" التي تحذّر منها، وما تستتبعه من فتنة واقتتال وما إلى ذلك؟
قد لا يحمل بيان المجلس الأعلى للدفاع مثلاً الكثير من الإجابات "الشافية" على هذا الصعيد، فهو صوّر "قطع الطرقات" الذي يتمّ في بعض المناطق اللبنانيّة، وكأنّه "المحظور الكبير"، أو ربما "مصيبة المصائب"، ودعا القوى الأمنية لمنعه بالمُطلَق حفاظًا على الاستقرار.
أكثر من ذلك، لم تقدّم السلطة "حلولاً" يمكن البناء عليها والاستناد عليها فعليًا، علمًا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ أساس "الاستقرار" بالمعنى الأمني يبقى سياسيًا، وبالتالي فإنّ تشكيل حكومة تلبّي متطلبات المرحلة وتشرع في تنفيذ الإصلاحات، قد يكون "الحصانة" المطلوبة.
ومثل هذه "الحصانة" بلا شكّ، تتفوّق على كلّ الخطط الأمنية، خصوصًا إذا ما جاءت الحكومة بطريقة مغايرة لما سبق، وبعيدًا عن منطق المحاصصة، وفرضت "ثقة" الشعب والمجتمع الدولي، لأنّ كلّ ما دون ذلك لن يستطيع "إخماد" الغضب الشعبيّ الآتي لا محالة.
الطريق إلى "جهنّم"
ثمّة خشية "مشروعة" إذًا من مصير "أسود" يجرّ البعض لبنان باتجاهه، فالأزمات التي تجرّ الأزمات لا توحي بأيّ "انفراجةٍ" في الأجواء، بل إنّ الأمور تبدو أكثر "تعقيدًا" ممّا يظهر، والأفق الحكوميّ والسياسيّ مسدود إلى حدّ بعيد، وعلى كلّ المستويات.
وتتعزّز هذه الخشية بالاستناد إلى التجارب السابقة، خصوصًا أنّ كثيرين في الداخل اللبناني باتوا يروّجون لمنطق "الفوضى" انطلاقًا من مقولة "اشتدّي يا أزمة تنفرجي"، واستنادًا إلى قناعةٍ راسخة بأنّ لا حلّ قد يبصر النور سوى بعد "معركة" تفتح المجال أمام "التسوية".
لكن مثل هذه "الخشية" لا يمكن أن تُقابَل بخطّة أمنيّة، تقوم على "قمع" كلّ من يريد الاحتجاج على الوضع القائم، أو يسعى لقطع طريق، خشية "طابور خامس" قد يستغلّها، بعدما ثبّت "عقم" هذه الاستراتيجية، التي تسهم في تأجيج الوضع لا تيسيره بالحدّ الأدنى.
من هنا، فإنّ الردّ الطبيعيّ والمنطقيّ على هذه الخشية يكون بقطع الطريق على كلّ المخططات والمؤامرات، حقيقية كانت أم وهميّة، عبر تغليب مصلحة البلد على كلّ ما عداها، وعدم انتظار "التوتير" للقبول بتقديم "التنازلات"، ولو أنّ مثل هذا السيناريو يبدو "تعجيزيًا".
الخشية "مشروعة"، نعم، لكنّها لا تنبع من تحركات لا تزال محدودة ومتواضعة، ولا حتى من المصطادين بالماء العكر، الذين ينتظرون الفرصة للتسلّل وتوتير الأجواء، بل من أداء سياسيّ، كان رئيس الجمهورية سبّاقًا منذ أشهر بالتحذير أنه لن يوصل سوى إلى "جهنّم"!