هي الفوضى بأبشع صورها تعمّ الساحات اللبنانية. لم تكن مفاجئة لا بل متوقعة. التوقعات تحدثت عن هذا المشهد منذ فترة بعيدة، لكن المفاجئ لا بل الصادم، انّ اطراف السلطة في لبنان لم يكلّفوا أنفسهم عناء استباق الفوضى والسعي الى معالجة بعض اسبابها. استمر هؤلاء في تعنتهم وفي نزاعهم حول الحصص الحكومية، من دون الالتفات الى المخاطر التي تحدق بالناس.
قبل ساعات معدودة من الانفجار الامني في طرابلس، كانت التقارير التي حملها المسؤولون الامنيون الى اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، تُجمع على المنسوب المرتفع للخطر الامني المحدق باللبنانيين.
في هذا الاجتماع، تناوب المسؤولون الأمنيون على التحذير من الوضع الامني الخطير الذي بات موجوداً. واكّدت التقارير الامنية المرفوعة، أنّ لبنان ذاهب الى فوضى كبيرة، في حال توسعّها وانفلات الامور دفعة واحدة. وتابعت هذه التقارير شرحها للأوضاع المعيشية المزرية التي يعيشها اصلاً الضباط والعناصر، وتراجع قدرات المؤسسات العسكرية والامنية، وبما يشبه الرجاء، اجمع المسؤولون الأمنيون على ضرورة إيجاد حلول سياسية سريعة، تسمح بإحداث صدمة ولو معنوية، وتفتح الطريق امام البدء بولوج حلول اقتصادية، للمحافظة على التماسك ولو بالحدّ الأدنى.
لكن صرخة المسؤولين الأمنيين بقيت من دون صدى، وبعد اقل من 24 ساعة انفجر الوضع في طرابلس، فيما الفوضى تعمّ معظم الشوارع والطرق.
لم تكن هذه التحذيرات جديدة. فمنذ فترة بعيدة، توالت التحذيرات الامنية حيال ما سيحدث في الشارع. لذلك مثلاً تحرك وليد جنبلاط ومعه طلال ارسلان ووئام وهاب، وتجاوزوا الخلافات الدموية داخل الطائفة الدرزية وعقدوا لقاءهم في خلدة. الهدف واضح: إقفال الساحة الدرزية امام تمدّد الفوضى الإمنية الى البلدات والقرى الدرزية.
هو تقليد درزي تاريخي يتجاوز الخلافات منعاً لدماء الفوضى. كذلك على مستوى الساحة الشيعية توالت الاجتماعات بين «حزب الله» وحركة «أمل»، من اجل تنظيم الوضع. وكان كلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله حازماً في هذا الاتجاه، حتى على مستوى تراشق الهجمات الاعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
اما على المستوى المسيحي، فالنزاع بقي هو هو، لا بل تفاقم بسبب الحملات القائمة والمزايدات الانتخابية التي لن تعطي اي مكاسب فعلية وجدّية، ما ترك الساحة مشرّعة امام الفوضى ودمائها.
اما على الساحة السنّية، فإنّ وضعها هو الأكثر دقة، خصوصاً في طرابلس، حيث التداخلات والاختراقات. لا شك في أنّ التحقيقات تدور الآن حول ما اذا كان هنالك بصمات لأيادٍ من خارج المدينة تحمل مشاريع تفجيرية ما من خلال استغلال الوضع. لكن المرجعيات الامنية تدرك جيداً أنّ الوجع يعصر الناس، وهو ما جعلها تحذّر منذ زمن بعيد مما قد يحصل. فمن الطبيعي ان يؤدي الجوع وانسداد الافق والنزاع السياسي العنيف الى اشعال الوضع، خصوصاً وأنّ السلاح منتشر لدى جميع الناس. الأهم ألّا تنجح التنظيمات الارهابية في التغلغل للاستفادة من هذا الظرف الذي يُعتبر مثالياً لها.
رغم ذلك، كان الهمس السائد خلال الحلقات التي عُقدت قبل بدء جلسات المجلس الاعلى للدفاع، أن لا حكومة قريباً، وأنّ حكومة تصريف الاعمال هي التي ستشرف على الانتخابات النيابية. لا بل انّ وزارة الداخلية باشرت في وضع اقتراحاتها حول المواعيد بسبب حلول شهر رمضان بدءاً من الثاني من شهر نيسان المقبل، وبالتالي هنالك اقتراح بإجراء الانتخابات باكراً اي اواخر شهر آذار او في النصف الثاني من شهر ايار.
في الأمس شارك رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب في اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، وهو الذي لم يكن يستسيغ جلسات انعقاده كونه كان يبدو وكأنّه بديل عن الحكومة. مشاركته في الأمس أوحت أنّه بات اقرب الى فكرة تفعيل عمل حكومة تصريف الاعمال وكدليل اضافي على انّ الحكومة لن تتشكّل.
دياب الذي سيبقى متمسكاً بعدم الدعوة الى عقد جلسة لحكومته، ما يبقيه في منأى عن غضب بيئته، سيستعيض عن ذلك بالدعوة الى اجتماعات وزارية وتفعيل صيغة المراسيم الجوالة.
وقد يكون دياب قد تلقّى «نصيحة» سياسية من فريق حليف له، بضرورة ملء الفراغ على مستوى السلطة ولو جزئياً، وهنالك من يقول انّ هذه النصيحة اتت من «حزب الله».
في المقابل، سادت اجواء أنّ الرئيس سعد الحريري قد اتخذ قراره بالاعتذار، ولكنه يدرس التوقيت والاخراج المناسبين لكي لا تأتي النتائج سلبية وعلى حسابه، بدلاً من ان تكون لمصلحته. ووفق السيناريوهات المقترحة، أن يتقدّم الحريري بصيغة من 24 وزيراً تتضمن اسمين مسيحيين للوزارتين المختلف عليهما يكونان من الشخصيات الوازنة والمشهود لها.
ووفق حسابات الحريري، سيعمد رئيس الجمهورية الى رفض هذه التشكيلة، على أن يقوم الحريري بتسريب اسماء اللائحة الى الرأي العام، ومن ثم يتولّى هو تزكية اسم من سيتولّى مهمة تشكيل حكومة انتخابات، على ان يكون هو واعضاء الحكومة من غير المرشحين للانتخابات النيابية.
وراج هنا اسم نجيب ميقاتي الذي ساند الحريري في المرحلة الاخيرة، وفي الوقت نفسه لا يبدو راغباً في خوض الانتخابات النيابية. سيناريو الاعتذار أخذ دفعاً قوياً خلال الايام الماضية، ليس فقط بسبب الفوضى الشاملة التي دخلها لبنان، بل بسبب المناخ الدولي المستجد والقلق جداً على مسار الامور في لبنان. منذ نحو اسبوع كان وزيرا الخارجية الاميركية والفرنسية قد عقدا اجتماعاً اعلنا في ختامه قلقهما على الوضع في لبنان وتفاهمهما على فرض عقوبات على معرقلي الولادة الحكومية، وتلا ذلك اجتماع ثلاثي عُقد في الامس شارك فيه وزير الخارجية السعودية، وما بينهما تحرك للسفيرة الاميركية في بيروت جدّدت فيه دعم بلادها لمبادرة الرئيس الفرنسي، ولوّحت بعقوبات على معرقلي ولادة الحكومة. فعدا الدخول السعودي على الخط من خلال الاعلان عن الاجتماع الثلاثي في مدينة ماتيرا الايطالية، فإنّ الوزير الفرنسي جان إيف لودريان هو من الفريق الفرنسي الذي لا يستسيغ كثيراً الحريري، بعكس فريق فرنسي آخر يتمسك به، ومن رموزه السفير ايمانويل بون، وبالتالي فإنّ وجود لودريان الى جانب وزير الخارجية السعودية مع الوزير الاميركي انتوني بلينكن يدفع بالحريري ربما الى تقليص هامش مناورته والتخطيط جيداً لطريقة وتوقيت اعتذاره والانصراف اكثر للتحضير للانتخابات.
في الواقع، ورغم خطورة الوضع الامني في طرابلس والدخول في مرحلة الفوضى الشاملة، إلّا أنّ القوى السياسية المصدومة من نتائج ودلالات انتخابات نقابة المهندسين، باشرت انتهاج لغة خطابية انتخابية، ما يضاعف من سوء الوضع وخطورته.
ففي جلسة المجلس النيابي امس، غلبت المزايدات في المواقف والخطابات الشعبوية، فيما بداية الحل يعرفها الجميع من خلال التنازل عن الانانيات وتسهيل ولادة الحكومة. وعدا السقف الشعبوي للكلمات والمواقف، كان التركيز على البطاقة التمويلية، والتي لن ترى النور قبل الخريف المقبل، لأنّ تنظيم لوائحها يحتاج الى وقت طويل.
وتوقيت الاعلان عن ولادة البطاقة التمويلية في الخريف المقبل سيجعلها بطاقة انتخابية بامتياز. هكذا تفكر هذه الطبقة السياسية مع الاسف، فيما كان من المفترض اتخاذ اجراءات سياسية، تسمح على الاقل الاستفادة من العدد المرتفع للقادمين الى لبنان، والذي فاق كل التوقعات.
ذلك أنّه كان يُتوقع قدوم ما بين 2000 الى 3000 آلاف مسافر يومياً، الّا انّ ما حصل انّه يُسجل يومياً قدوم ما بين 8 الى 10 آلاف شخص، وهو ما يرجّح ادخال زهاء ملياري دولار كحدّ ادنى الى لبنان خلال فصل الصيف. لكن انانية رجال الطبقة السياسية في لبنان ستتضاعف، خصوصاً بعد حال الهلع التي انتابتهم جراء نتائج انتخابات نقابة المهندسين.
صحيح انّ هنالك عوامل لها علاقة بالعمل النقابي، إلّا أنّ ثمة عوامل اخرى تُعتبر مؤشرات سياسية وشعبية حاسمة. فالعدد القياسي للمهندسين المشاركين في الانتخابات يعني أنّ الفئات النخبوية اللبنانية تملك حافزاً قوياً. فغالبية المهندسين صوّتت سياسياً، بدليل النتيجة التي نالها والد الطفلة الشهيدة، والتي قضت في انفجار الرابع من آب. والأهم أنّ معظم المقترعين الذين تحدّوا الظروف الصعبة للمشاركة في الانتخابات، كانوا من الطائفة المسيحية، وهو ما يؤكّد الارقام والتوقعات التي سادت، بأنّ نحو 65% من الساحة المسيحية تقف ضدّ الاحزاب والقوى السياسية الموجودة.
والعبرة السياسية من الانتخابات النقابية جعلت هذه القوى السياسية امام حقيقة واضحة، هي أنّ ايامها باتت معدودة . لذلك فلننتظر منها مزيداً من الخطابات الشعبوية واللعب على وتر الانقسامات الطائفية والمذهبية، لاعتقادها انّها قادرة على التعويض من خسائرها الشعبية الجسيمة.