حين اطلق رئيس الجمهورية السابق امين الجميل مقولة "اعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم"، لم يكن يدرك حتماً اننا سندهش العالم بما وصلنا اليه من حال اليوم، ولكنه كان من الممكن توقع ذلك، طالما ان "الوراثة السياسية" هي المتحكمة بالبلد، وكانت مطلوبة ومرغوبة من قبل دول الخارج اجمع، وهي التي فرضت الوصاية السورية على لبنان وبعدها وصايات اقتصادية ومالية وسياسية عبر تأمين الغطاء لكل اعمال السرقة والهدر التي كانت سائدة وكان الخارج يشجّعها ويصفق لها، الى ان "استفاق" اليوم على وجوب اعلان براءته منها.
المشهد اليوم يعيد نفسه، وكأن لبنان اصبح خارج الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والمعيشية، وبات همه الوحيد محصور فقط في الانتخابات النيابية، وهو امر يحصل برضى ودعم وتأييد من الخارج ايضاً وايضاً. واللافت ان ما يقال علناً من قبل القوى الكبرى عن لبنان، وعن وجوب ان ينقذ اللبنانيون انفسهم من خلال "تدبير امورهم" هو كلام حقّ يراد به باطل، لان الازمة خارجية وهم يعلمون تمام العلم ان دعمهم مختلف القوى المحلية هو السبب المباشر في استمرار نفوذهم وقوتهم على الساحة، كما انهم يدركون ايضاً ان الانتخابات النيابية ستنجب برلماناً مشابهاً للحالي، مع تعديلات بسيطة لن تنجح في تغيير الصورة الشاملة. من هنا، يمكن توقع المشهد المقبل، حيث تحول الحديث من حكومة انقاذية، الى حكومة انتخابية، بمعنى ان همها سيكون محصوراً فقط في تأمين اجراء الانتخابات النيابية وهو المطلب الذي بات اولوية على الاجندة الدولية، بحيث اصبح من المقبول بالنسبة الى الدول الفاعلة التي تتحكم بمصير الدول الاخرى ومنها لبنان، ان تجرى الانتخابات النيابية في موعدها، وان يقرر الشعب اللبناني مصيره بنفسه من خلال الاقتراع لممثليه في مجلس النواب، فتلقي الدول عن كاهلها حملاً ثقيلاً وتحمّل المسؤولية الى الشعب بأسره لانه اوصل من يريده الى السلطة التشريعية، ولا يمكن رفض قرار الشعب ورغبته... ألم يكن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالغ الوضوح في معرض اجابته على اسئلة الصحافيين خلال زيارته الى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت واطلاقه المباردة الفرنسية، بالقول انه ليس هو من اتى بالطبقة السياسية اللبنانية، بل الشعب هو من فعل ذلك؟ هذا الكلام صحيح، ولكن على ماكرون ان يسأل ايضاً من سبقه في الحكم على مدى عقود من الزمن في فرنسا وباقي الدول الكبرى، عن تشجيعهم لبقاء الطبقة السياسية نفسها في لبنان مرة تلو الاخرى وسنة بعد سنة، ليحظى بالجواب الكامل!.
من جهتهم، يستفيد اللاعبون المحليون من هذا الواقع المستجد، وكأن لسان حالهم لدول الخارج هو: اعطونا الاكثرية في الانتخابات النيابية وخذوا ما يدهش العالم. وللتوضيح فقط، فإن عبارة "ما يدهش العالم" مطاطية كونها قابلة للتأويل لجهة ادهاش العالم سلباً وايجاباً، والمؤلم في هذا السياق ان المصلحة الدولية تكمن في تلبية هذه الرغبة، وهو ما يفسّر ابقاء الوضع اللبناني ضمن فقرة "المراوحة المأساوية" الى ان يحين الوقت للشروع بالتسوية المعروفة والمعتمدة وهي تسوية على طريقة "عفا الله عما مضى والبدء بصفحة جديدة". وللاسف، فإن الرهان على هذا الواقع ناجح جداً، لان الغريق حين يتمسك بطوق النجاة، سرعان ما ينسى معاناة الغرق، ويبدأ في البحث عن اسباب اكمال مسيرة الحياة بأي اسلوب متاح، حتى ولو كان سيئاً على غرار ما عاشه اللبنانيون في السابق، ولكنه يبقى افضل حالاً مما يعيشونه اليوم.
الى الانتخابات در، هذه هي الوجهة التي حددتها البوصلة الدولية الآن، وهي كفيلة بمحو كل الشروط والمبادرات السابقة، ولن يكون تمويل الحملات الانتخابية والمساعدات لتحسين صورة المسؤولين والسياسيين عائقاً امام تحقيق الاهداف الانتخابية، فيما بدأت تظهر النغمة الجديدة لتعاطي هؤلاء مع الاحداث، من حيث التبرؤ من كل المراحل السابقة، فكثر القديسون في لبنان ولم يعد هناك من اشرار... وحده مفعول الانتخابات قادر على اجراء مثل هذا التغيير الذي بالفعل يدهش العالم.