كان من الواضح منذ بداية الأزمة الإقتصادية والمالية والوبائية أننا سنصل إلى واقع صحي مأزوم، يُهدّد إستمرارية هذا القطاع الحيوي وجودة خدماته، وأنّ المسألة ليست إلاّ مسالة وقت.
إستطاع الدعم المخصّص من مصرف لبنان لمستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية أن يساهم في تأمين حاجات القطاع وصموده، إذا صح التعبير، رغم الشكوى من سوء إدارة الملف. ومع حديث مصرف لبنان المركزي عن رفع الدعم، بدأ مخزون الأدوية يتدنى في السوق، وكثير منها غير متوافر، والمستلزمات الطبية سيرتفع سعرها حكماً طالما انّ الشركات ستستوردها بسعر السوق من دون أي دعم، ما سينعكس على المريض والمؤسسات الإستشفائية التي لجأ بعضها الى إلغاء جراحات معينة نظراً لكلفتها الباهظة. أضف الى هذه التكاليف والأعباء، تكلفة الصيانة الضرورية للمعدات الطبية، كماكينات السكانر والاشعة وغيرها، لتأمين الإستمرارية في عملها، ما اضطرها الى ابرام عقود صيانة وإستيراد قطع غيار بالدولار الأميركي. كل هذا والجهات الضامنة التي يستفيد منها نحو 80% من اللبنانيين لم تعدّل في التعرفة المعتمدة بسبب موازناتها، ومع صعوبة الإستمرار في التعرفة القديمة وصعوبة زيادتها ومحاذيرها، فذلك يتطلب زيادة الإشتراكات على المستفيدين، أو رفع قيمة المساهمات المقدّمة من الدولة وهذان الأمران مستحيلان ربما في هذه الظروف.
مع الإشارة الى انّه حتى ولو حصل إتفاق على رفع التعرفة، فإنّ من غير الممكن الوصول الى النسبة المطلوبة من القيّمين على القطاع الاستشفائي، التي تصل الى نحو 75%، وبالتالي اي تعديل للتعرفة لن يكون الحل الجذري. وعلى الرغم من تدني قيمة التعرفة، فإنّ لتلك المؤسسات ديوناً في ذمة الدولة والجهات الضامنة، متراكمة منذ سنوات وفقدت ما قيمته 90% مع بداية الأزمة المالية واستمرار التعرفة على حالها، حتى ولو سُدّدت شهرياً لن تكون لها قيمة، بفعل الفارق الكبير بين النفقات المتصاعدة قياساً الى سعر صرف الدولار وثبات قيمة الديون بحسب الليرة.
كان لا بدّ لهذا الواقع المالي من ان ينعكس سلباً على القطاع الصحي، فأولى تأثيراته كانت هجرة العاملين في القطاع من أطباء وممرضين وتقنيين، بحيث انّهم فضّلوا الهجرة وإستجابوا لعروض العمل المغرية في الخارج، في مقابل إنسداد الأفق وضبابية المستقبل المهني وتدني الرواتب في لبنان. فخسارة المستشفيات الكوادر المهنية المترافق مع الضغط المالي، شكّلا سبباً لتخفيف الخدمات الطبية، وصولاً الى إقفال المستشفيات لأقسامها واحداً تلو الآخر، حتى وصل الامر ببعضها الى الإقفال التام. وإذا ما إستمرت الازمة، قد نخسر خدمة ودور عدد من المؤسسات، الامر الذي سينعكس على القطاع الصحي عموماً وقدرته على تلبية حاجة المرضى.
أمام هذا الواقع السوداوي، لا يمكن ان تقف الدولة متفرجة على إنهيار قطاع حيوي كالقطاع الصحي، وبالتالي تهديد الأمن الصحي بنحو كامل، ما يفرض عليها التدخّل لدعم المؤسسات الإستشفائية ومساندتها لتخطّي الأزمة واتخاذ إجراءات ثابتة وسريعة للحيلولة دون السقوط والتخفيف عن كاهل المواطن.
ومن الخطوات المساعدة:
ـ إيجاد آلية واضحة وشفافة لتأمين إستمرارية الدعم للأدوية والمستلزمات الطبية، والاسراع في إقرار قانون الدواء والمستلزمات الطبية والمتممات الغذائية، من خلال إتفاق الكتل النيابية المختلفة ودعمها لإمراره، مما يساهم في تصويب السياسة الدوائية، وإلى ان يُقرّ إقتراح القانون المشار إليه أعلاه، وجوب قيام الدولة عبر لجنة تتبع لوزارة الصحة بعضوية الجهات الضامنة المختلفة بإستيراد المستلزمات الطبية وأدوية الامراض المزمنة مباشرة.
ـ الإستفادة من البرامج الدولية المطروحة للمساندة من خلال تأمين مساعدات ودعم من دول ومؤسسات لدعم القطاع الصحي، وخصوصاً بعد تفشي وباء كورونا ودعماً للقطاع الصحي وإستمراريته، ولا بدّ من الإشارة الى ضرورة التحضير لمؤتمر وورشة عمل يُنظمان مع المؤسسات الدولية، لوضع المجتمع الدولي في واقع الأمن الاستشفائي والصحي، وطريقة دعمه خلال السنوات الخمس المقبلة.
ـ في ما يخصّ القطاع الإستشفائي الرسمي: تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومراجعة قانون الحوكمة والإستفادة من البرامج الدولية المشجعة لتحقيق تلك الشراكة، وصولاً الى قطاع صحي عام منتج ومربح. إذ أنّه في غالبيته حالياً غير مربح ويقوم على دعم ومساهمة سنوية من الحكومة.
أخيراً، من المؤسف ألّا يشكّل هذا واقع القطاع الصحي المنهار سبباً كافياً لدى المعنيين اليوم، للدفع نحو تشكيل حكومة إنقاذ وإصلاح، يتوقف على وجودها تحقيق الدعم الدولي المطلوب، بالتزامن مع إعداد وتطبيق خطة واضحة وصريحة للنهوض مجدداً.
ليعلم الجميع، ولا بدّ بأنّهم يعلمون، فإنّ انهيار القطاع الصحي لا سمح الله هو انهيار لمنظومة الأمن الإجتماعي بكاملها