في ظلّ أجواء ملتبسة حول الموقف الأميركي من القضية السورية والوجود الأميركي في العراق، قامت الطائرات الأميركية باستهداف مواقع ادّعت أنها لقوات سورية وعراقية “إرهابية تناهض الوجود الأميركي” في المنطقة، وأحاطت أميركا عمليّتها العسكرية بالكثير من الاستعراضات وصولاً إلى أنها أبلغت مجلس الأمن الدولي بها (بعد أن كانت قد نفّذتها) مدّعية أنّ العمل العسكري الأميركي بقصف تلك المواقع جاء في سياق المهمة الأميركية في المنطقة لمحاربة الإرهاب والدفاع عن النفس أيضاً.
طبعاً، ومن دون أدنى شكّ، لا نرى نحن أيّ ربط بين العدوان الأميركي على مناطق حدودية عراقية/ سورية ومهام محاربة الإرهاب الحقيقي، والكل يعلم أنّ القوات التي استهدفت هي جزء من المنظومة الدفاعية السورية والمنظومة الدفاعية العراقية التي تصدّت للإرهاب ومنعت أولاً انتشاره ثم قضت على حلم داعش الإرهابية في إقامة دولة مزعومة، كما أنّ كلّ ساع إلى الحقيقة يعرف وبدون التباس بأنّ أميركا هي التي تنشر الإرهاب وتستثمر به وتتكئ عليه لتبرير وجودها وهيمنتها واحتلالها في منطقة الشرق الأوسط. وأنّ ما قامت به أميركا ليس حرباً على الإرهاب بل مواجهة وعدوان على دول وقوى المقاومة العاملة من أجل تحرير أرضها من الاحتلال ومنع وجود الإرهاب الحقيقي فيها. وأن العدوان الأميركي الأخير هوعدوان على قوى تطلب الحرية والتحرير لأرضها. وهنا يطرح السؤال كيف نوفق بين العدوان الأميركي هذا وما تدّعيه أميركا من نية لترك الشرق الأوسط أو تخفيض القوى فيه من أجل الانزياح أو الانتشار في الشرق الأقصى في مواجهة الصين؟
في موقف سابق كنا قد ناقشنا السلوك الأميركي في الشرق الأوسط وخلصنا إلى القول بأنّ ما نراه من سلوكها في المنطقة هو عمل باستراتيجية جديدة تعتمد “القوة الناعمة الذكية المركبة” التي تتيح لأميركا أن تقفل الجبهات القائمة وتخفض عديد القوى المنتشرة فيها وتقلص مساحة الأهداف التي يمكن أن يتخذها أعداء أميركا وخصومها محلاً لمقارعة الوجود الأميركيّ العدوانيّ.
استراتيجية وطأت لها أميركا بمواقف عدة بدءاً من قرار الانسحاب من أفغانستان والإعلان الملتبس عن نية الانسحاب من العراق والدعوة الملتبسة لوقف العدوان على اليمن وأسمتها أميركا وقف الحرب وحلّ لنزاع سلمياً، وأخيراً الدعوة الملتبسة لحلّ المسألة السورية وفقاً للقرار 2254 دون تجاوز الحكومة السورية الشرعية القائمة أو لا يغفل قرار الشعب السوري في ممارسة سيادته.
أما القول بالانسحاب الشامل والخروج من المنطقة وتركها للأخرين فهو قول واهن في غير محله، إذ لا يمكن لأيّ قوة في العالم تطمح لدور عالمي أن تتخلى أو تزهد بالشرق الأوسط ذي المزايا الاستراتيجية الكبرى، الموقع والثروة والديمغرافية التي احتضنت الأديان والعقائد، ولهذا فإنّ اهتمام القوى الدولية بالشرق الأوسط يتراوح بين حدّ السيطرة التامة والاستعمار والاحتلال وحد التعاون والتفاهم والتحالف، ولا يمكن أن يتخلى عن الاهتمام بالشرق الأوسط إلا من أراد الخروج من خريطة القوى الدوليّة والعالميّة واكتفى بذاته منعزلاً أو متقوقعاً لرغبة منه أو لظروف ذاتية أو موضوعية وطبعاً لم تصل أميركا إلى هذا المستوى بعد وإن كان وصولها إليه غير مستبعد في ظل ما بدأت مؤشراته تظهر في الداخل الأميركي أو على الصعيد الدولي، ولكن حتى الآن فإنّ أميركا مستمرة في الشرق ولكن وفقاً لاستراتيجية تختلف عن استراتيجية القوة الصلبة التي عملت بها بعد الحرب الباردة لنيف و3 عقود.
أما السلوكيات التي تلتزم بها أميركا في ظل أعمال الاستراتيجية الجديدة فتتضمّن:
1 ـ تجنّب المواجهات العسكرية وشنّ الحروب التي تشارك بها أو تقودها أميركا، وبالتالي نعتقد وبكلّ ثقة بان مشاهد احتلال أفغانستان أو احتلال العراق أو الانتشار العسكري الواسع في المنطقة لن يتكرّر.
2 ـ بناء العلاقات الوطيدة مع جيوش الدول التابعة للسياسة الأميركية والتحكم بقرارها وأدائها لتكون هي القوى البديلة التي تنفذ السياسة الأميركية. ومن هذا القبيل تأتي محاولات احتضان أميركا للجيش اللبناني والترويج لفكرة قيام الجيش بما تخطط له أميركا من صدام عسكري مع المقاومة ليس لتدميرها بل لإشغالها وشلها وتحويل اهتمامها من وجهته الحالية أي وجهة الدفاع عن لبنان إلى حصرها في مهمة الدفاع عن النفس. وكان دقيقاً جداً سيد المقاومة في كلامه الأخير في هذا الموضوع عندما أشار إلى التوجّه الأميركي وشرحّهُ ونبّه إلى خطورته وطمأن من يعنيهم أمر الجيش والمقاومة ولبنان أن هذه المكيدة لن تنجح وأن الجيش والمقاومة لن يقعا في الفخ الأميركي في ظلّ عقيدة الجيش الوطنية وتركيبة قواه البشرية وتموضعه وانتشاره العسكري.
3 ـ المحافظة على وجود عسكري ذي هيبة في المنطقة في قواعد عسكرية مناسبة قادرة على الدفاع عن نفسها بقدرات عسكرية متدنية بحيث تنفذ المهمة من غير كبير جهد وخدمة مهمة الدفاع هذه بعمليات عسكرية محددة تنفذ تحت عنوان “الدفاع المشروع عن النفس”. وفي هذا السياق نفذت أميركا عدوانها على المنطقة الحدودية العراقية السورية وادّعت أنها تدافع عن جندها وعن نفسها عندما قامت بالعمليات العسكرية وقصفت قواعد لمن أسمتهم فصائل موالية لإيران. أما الهدف الحقيقي من القصف فهو زرع الخوف الرادع الذي يمنع قوى المقاومة من ممارسة أعمال تهدف إلى طرد المحتلّ الأميركي من المنطقة. وهنا تكمن أهمية الردّ السريع والفعّال الذي قامت به قوى المقاومة في المنطقة الحدودية التي استهدفت بالعدوان الأميركي وتنفيذ عمليات قصف للقواعد العسكرية الأميركية غير الشرعية في حقل العمر النفطي، ردّ أفهم أميركا أن المقاومة تملك القرار والشجاعة والإمكانات الميدانية اللازمة للمواجهة الدفاعية الفعالة.
4 ـ الاستمرار في دعم واحتضان المجموعات الإرهابية ومنع اجتثاثها على يد الحكومات الوطنية أو القوى المقاومة، لأن أميركا بحاجة للإرهابيين من أجل منع إعادة الاستقرار إلى المنطقة ودفعها إلى الفوضى ثم من أجل تبرير استمرار وجودها فيها. وهنا يجب ألا نتوقع قراراً أميركياً بالتوقف القريب عن دعم داعش ومثيلاتها أو الضغط على تركيا لوقف دعمها للإرهاب أو أنّ ننتظر انقلاباً أميركياً على قسد. فكلّ هذه الأمور غير قائمة في القاموس الأميركي حاضراً وفي المستقبل القريب.
وعليه فإننا لا نتوقع كما يظن البعض قراراً أميركياً قريباً بإخلاء العراق وسورية من الجيش الأميركي أو من القوات الأطلسية الفرنسية والبريطانية من دون أن يكون ذلك نتيجة ضغط ميداني مقاوم مترافق مع صلابة رسمية رافضة للاحتلال، كما أننا لا نتوقع أن تعود أميركا إلى استراتيجية القوة الصلبة وتنفيذ الاحتلال الشامل، بل نرى أنّ أميركا ستعمل فقط طالما أنها مستطيعة، تعمل فقط بما تقدّم ما يفرض على محور المقاومة وضع استراتيجية مواجهة دفاعيّة تفشلها في ما اتجهت اليه ويجب أن نركز على مواطن الاهتمام الأميركي لعرقلة تحقيق الأهداف الأميركية فيها مع التركيز على منع انتشار الفوضى أو القبول بمساكنة الاحتلال أو التعايش معه بمنطق الأمن المتبادل أو تقديم الأدوات المحليّة التي تحقق أغراضه وتنفذ مؤامراته.