في "يوم الصلاة والتأمّل من أجل لبنان" الذي خصّ به البلد الذي يحمله في قلبه ولديه الرغبة في زيارته، وفق ما يقول، دعا البابا فرنسيس القادة السياسيين في لبنان إلى إيجاد "حلول عاجلة ومستقرة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة".
لكنّ البابا فرنسيس الذي حذر من "أزمة خطرة" يتّجه إليها البلد، لم يكن "دبلوماسيًا" في مخاطبته القادة السياسيّين، الذين قال إنّ لبنان "لا يمكن أن يبقى تحت رحمتهم"، واصفًا إيّاهم بأنّهم "بلا ضمير"، وداعيًا الأسرة الدوليّة إلى بذل جهد مشترك لإنقاذ البلد ومنعه من الانهيار.
ورغم الكلام القاسي والسهام المباشرة، تمثّلت المفارقة مرّة أخرى في طريقة تلقّف الطبقة السياسية في لبنان لمواقف البابا، التي بدت "متناغمة" مع معظم المواقف الدولية من الأزمة اللبنانية، حيث كان "التهليل" سيّد الموقف، مع "غبطة" بموقع لبنان في حاضرة الفاتيكان.
قد لا يكون ذلك مُستغرَبًا، إذا ما عُرِف أنّ هؤلاء القادة السياسيّين كانوا منهمكين قبل ساعات قليلة من لقاء الفاتيكان، بتسجيل "رشوة انتخابية" لجمهورهم، من خلال بطاقة تمويلية "شعبوية" بلا مصادر تمويل أساسًا، في استكمال لمسلسلٍ بات "مملاً ومستهلَكًا" إلى حدّ بعيد.
فهل من شيءٍ يُرتجى من "نداء" الحبر الأعظم، أم أنّ ما كُتِب قد كُتِب والآتي أعظم؟ ومتى يحين الوقت الذي تضع فيه النخبة السياسية حدًّا لفصول "إذلال" اللبنانيّين، خصوصًا بعدما شعرت في جلسة البرلمان بـ"غيض من فيض" المعاناة، ولو بأبسط حللها وأبهاها ربما؟!.
نداء البابا "الصارخ"
صحيح أنّ لبنان الذي يشهد انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا متسارعًا منذ صيف 2019، وقد بلغ أوجه بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، حضر على "أجندة" المجتمع الدوليّ، بكلّ أشكاله وفئاته، على امتداد الأشهر الماضية، إلا أنّ للقاء الفاتيكان في هذا الصدد "رمزيّته" المنبثقة بالدرجة الأولى من "روحيّته"، وما تنطوي عليه من دلالات.
لهذا السبب، لا يمكن التعامل مع اللقاء الذي جمع البابا فرنسيس من خلاله رؤساء الكنائس في لبنان، موجّهًا رسالة "أمل" إلى جميع اللبنانيين دون استثناء قوامها "لا للإحباط"، على أنّه لقاء عابر أو مألوف، ولو أنّها ليست المرّة الأولى التي يصلّي فيها البابا فرنسيس من أجل هذا البلد، الذي سبق له أن أعرب عن رغبته بزيارته في وقتٍ قد لا يكون بعيدًا.
في "رسائل" اللقاء، وكلمة البابا فرنسيس بالمناسبة، ثمّة من قرأ "تتويجًا" لمسار بدأه البطريرك الماروني بشارة الراعي منذ أشهر، هو الذي دأب في عظاته الأسبوعية على مهاجمة الطبقة السياسية وتحميلها مسؤولية الأزمات المتراكمة، وحاول في الوقت نفسه أن يقرّب وجهات النظر لتسريع تشكيل حكومة "الإنقاذ"، ولو باءت جهوده كغيره بالفشل.
ويتحدّث البعض عن "انسجام" واضح بين أداء الراعي في الأشهر الماضية، وكلام البابا فرنسيس، حيث حضر "الحياد" مثلاً بدعوة الحبر الأعظم بعض الدول إلى الكفّ عن التعامل مع لبنان كما لو كان "رهينة" لديها، كما حضر أيضًا المؤتمر الدولي الذي يطالب به الراعي، حين طالب البابا فرنسيس أعضاء الأسرة الدولية بالمساعدة على إنقاذ البلد.
وعلى أهمية كلّ ما سبق، قد لا يكون مُستغرَبًا أن يكون وضع المسيحيّين في لبنان هو تحديدًا ما "يؤرق" البابا فرنسيس، كما الكثير من اللبنانيين، في ظلّ مخاوف "مشروعة" من أن يلحق بهم ما حصل مع غيرهم في المنطقة، ولو أنّ الأزمة الاقتصاديّة الراهنة تضع الجميع في خانة واحدة، تمامًا كما تضع "الجلادين" متنوّعي الطوائف في خانة واحدة أيضًا.
ذلّ ورشاوى وأكثر
قد يتفاءل البعض بإمكانية أن يحرّك "نداء" البابا فرنسيس "الصارخ" شيئًا ما في نفوس القادة السياسيين، كيف لا وقد وصفهم بأنّهم "بلا ضمير"، رافضًا أن يُترَك اللبنانيون "تحت رحمتهم"، فأن يصدر كلام من هذا النوع عن مرجعية دينية بحجم البابا لأمر معبّر، ويدلّ على أنّ الطبقة السياسية في لبنان لا يمكن أن تواصل ممارساتها الحاليّة، كما لو أنّ شيئًا لم يكُن.
لكنّ مثل هذا "التفاؤل" يبدو "وهميًا" إلى حدّ بعيد، نظريًا وعمليًا في آن، ولعلّ المواقف التي صدرت عن القادة السياسيين حول "صلاة" كادت تتحوّل من "من أجل لبنان" إلى "ضدّ قادة لبنان"، عبر التهليل والاحتفاء، تشكّل "عنوانًا" أكثر من واضح، وأوحت أنّ هؤلاء لا يزالون على عادتهم يتعاملون مع كلّ ما يحصل "بالمفرّق"، ولا يأخذون منه سوى ما "يفيدهم"، متجاهلين كل شيء آخر.
ومن الناحية العمليّة أيضًا، يبدو مثل هذا "التفاؤل" بعيد المنال، إذ يصعب أن تنجح كلمات صدرت عن البابا فرنسيس، في "التأثير" على سياسيّين يتفرّجون كلّ يوم على مشاهد "الذلّ" التي يتخبّط خلفها اللبنانيون، من دون أن يحرّكوا ساكنًا، من أزمة المحروقات، و"الطوابير" أمام المحطات، إلى انقطاع الأدوية، والغلاء الفاحش، والتضخّم، واحتجاز الودائع، وغير ذلك.
وقد يكون في ما شهدته الجلسة الأخيرة لمجلس النواب التي عُقِدت الأربعاء في قصر الأونيسكو بعض من "أسرار" عمل هذه الطبقة السياسيّة، حتى إنّ "معاناتها" بعد تعطّل التكييف في القاعة، ما اضطر بعض النواب إلى خلع سترهم، وآخرين لـ"الشكوى"، لم تشفع للشعب، الذي لم يعد أصلاً بمعظمه قادرًا على عيش "نعيم" التكييف، في ظلّ انقطاع الكهرباء والمولّدات.
ففي الجلسة نفسها، أقِرّ مشروع البطاقة التمويلية، من دون آليّات ولا تفاصيل، ومن دون أن تحدَّد مصادر تمويل، لتكون "على الطريقة اللبنانية"، من الودائع والاحتياطي كالعادة، في مشهد ذكّر كثيرين بإقرار سلسلة الرتب والرواتب التي لم تكن، على أحقيتها، أكثر من "رشوة انتخابيّة" للموظّفين، لا تزال البلاد تدفع ثمنها حتى اليوم، بعدما جاءت من دون أيّ دراسات تفصيليّة للآثار والتبعات.
"إنكار وانفصام"
يهلّل المعارضون للسلطة في لبنان كلما صدر موقف دوليّ يعيّر هذه السلطة بأدائها وممارساتها، وهذا حقّ لهم ربما، بعدما ضاقوا ذرعًا بسياسات لا تقود البلاد سوى إلى المجهول أو جهنّم، فيما المسؤولون يبحثون عن مكاسب ومغانم، دونما اكتراث بالواقع الكارثيّ.
ويهلّل الموالون للسلطة في لبنان كلما صدر موقف دوليّ باعتبار أنّه يعكس أنّ لبنان "غير متروك"، وأنّه "في قلب" المجتمع الدوليّ، وأنّ الأخير "حريص" على الاستقرار، ولن يسمح للانهيار بأن يسلك طريقه إليه، وبالتالي سيتدخّل في اللحظة المناسبة.
كلا الفريقين يعيش انفصامًا وإنكارًا، إن جاز التعبير، فما الذي ينتظره الموالون حتى يدركوا أنّ الانهيار قد وقع، وأنّ الناس لم تعد قادرة على الصبر والتحمّل، وأنّ هناك من يكاد "يموت" بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بسبب الجوع والفقر والتعاسة التي تتسبّب بها "مافيا" السياسة؟!
وفي المقابل، إلى متى يبقى "رهان" المعارضين على مجتمع دوليّ قد لا يقدّم أكثر من معنويّات في أحسن الأحوال؟ هل ثمّة من يعتقد فعلاً أنّ "الفرج" يمكن أن يتم بـ"التدويل"؟ ومتى يقتنع هؤلاء بأنّ المطلوب حراك جدّي ومنظّم لا يشبه ما سبقه، لتحقيق التغيير المنشود؟!.