يعيش لبنان اليوم أجواءً تعكس الى حد بعيد ما حصل في نهايات الحرب الأهلية، حيث لم تشهد ترتيبات ما بعد الحرب أي مبادرة جدية لتطبيق آليات العدالة الانتقالية، وكل ما تمّ تطبيقه هو قانون العفو الشامل عام 1991، واستحداث وزارة للمهجرين والصندوق الوطني للمهجّرين لدفع تعويضات مادية للمهجّرين ولإخلاء البيوت التي تمّت مصادرتها خلال الحرب.
وبقيت آليات الذكرى أمرًا يختلف عليه اللبنانيون وبقي استمرارًا للانقسام اللبناني خلال الحرب، ولم تُبذل أي عمليّة رسمية للتصالح مع الماضي، وتقديم "حقيقة تاريخية" واحدة يتم التوافق عليها للانتقال من أرث الحرب الى بناء السلام، وبقي مصير 17 الف مفقود مجهولاً مع محاولات من المجتمع المدني وأمهات المفقودين لحثّ الدولة على التعامل مع هذا الملف بجدية باءت بالفشل، إذ أن القوى السياسية التي وصلت الى الحكم بعد الحرب كانت هي نفسها المسؤولة عن مصير هؤلاء.
ولغاية اليوم، ما زال كل فريق لبناني يقوم بإحياء ذكرى من "استشهدوا" من أفراده في الحرب بطريقة منفردة، وعبر روايات التعظيم والبطولة وعبر تقسيم "نحن وهم"، ما يزيد في الانقسام اللبناني المتوارث من الحرب الأهلية.
واليوم، يبدو أن الأحداث والتطورات تحاول ان تعيدنا بالتاريخ الى الوراء:
- تحاول الدولة العميقة وأركانها من أمراء الميليشيات السابقين وأعوانهم الفاسدين والمفسدين أن تحصل على عفو عام مالي مشابه للعفو العام الجنائي الذي حصلوا عليه بعد الحرب.
لقد اعتاد هؤلاء على بديهية الافلات من العقاب، إذ يبدو أن منح العفو العام بعد كل حرب أو اقتتال لبناني لبناني، هي عادة متبعة في لبنان، إذ صدر قانون عفو شامل بعد أول انفجار أهلي بعد الاستقلال (ربيع 1958)، ومنح العفو العام عن الجرائم المرتكبة حتى 15/10/1958.
وصدر قانون العفو الثاني بعد المشاكل والجرائم التي حصلت على أثر حرب حزيران 1967 ومنح عفوًا عامًا عن الجرائم المرتكبة قبل 1/1/1968.
لكن أن أبرز وأخطر قانون عفو عام في لبنان هو القانون رقم 84/91 تاريخ 26/8/1991، لأنه القانون الذي قام بطمس كامل الحقائق والجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية. كان هذا القانون أسوأ ما يمكن أن يحصل للعدالة في لبنان، حيث أعفى أمراء الميليشيات عن أنفسهم وتسلموا مقاليد السلطة، وعاثوا فساداً ونهباً بالدولة التي أطلق عليها أحدهم اسم "البقرة الحلوب".
والمشكلة اليوم، أن الاعلام الشريك استطاع أن يسوّق سرديات مساندة. فكما اختلف اللبنانيون حول "الواجب الوطني" الحربي الذي دفع كل منهم الى قتل شريكه في الوطن، نجد اليوم أن لكل طرف سرديته الخاصة حول أسباب الانهيار والمسؤولية التي يتحملها كل مسؤول أو طرف سياسي في هذا الانهيار.
وكما اختلفوا على "شهداء" الحرب الأهلية، وتنكروا لمسؤوليات زعمائهم وأحزابهم عن الجرائم والفظائع، يختلفون اليوم على هوية "الفاسدين"، فكما كان لكل طرف روايته الخاصة للحرب، كذلك للانهيار الاقتصادي اليوم سرديته.
بالنتيجة، تندفع الدولة العميقة للقتال للحصول على تسوية سياسية مشابهة لتسوية الطائف التي نحرت لبنان، وأسقطت العدالة على مذبح "لا غالب ولا مغلوب"، فإما أن تحصل على عفو عام وإعادة تكريس لزعاماتها كما حصل في ثلاث مرات سابقة، أو تجر البلاد الى انهيار ففوضى فاقتتال. لكن، كما يبدو، أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مصرّ على أجراء التدقيق الجنائي وهو يحرص ألا تستعاد تجربة الطائف التي أطاحت به في بداية التسعينات، فهل ينجح؟ لا بد من أن ينجح، وإلا السلام على لبنان.